أثار
انقلاب النيجر الأخير من الضجيج ما لم تثره انقلابات كثيرة سبقته، حتى
ليظن المتابع أنه انقلاب أول وليس انقلابا ضمن سلسلة انقلابات منها ما يخطط له بعد
وربما في النيجر نفسها. ولقد سمعت في مقاطع فيديو كثيرة الشخص رقم واحد في هذا
الانقلاب يتكلم كلام عقلاء، وهو أمر غير معتاد أن نصادف عسكريا شابا يحسن ترتيب
الكلام على معنى مهم من معاني الاستقلال والحرية. إنه يغير صورة المنقلبين في
مخيالنا، لكن هل يؤثر فعلا على شباب بلاده ويحملهم معه إلى معاني خطابه التي
سمعنا؟ قبل ذلك هل نصدق خطابه وهو لم يحكم بعد؟ أم هل نطبق قاعدة بسيطة من قواعد
الديمقراطية ونقول من ركب دبابة للحكم لا يمكنه أن يصنع الحرية؟
خطاب الحرية سابق على الانقلاب
يركز قائد انقلاب النيجر على نقطة مهمة في خطاباته وهي التحرر من الهيمنة
الفرنسية على بلاده، ويبدو أن هذا الخطاب يجلب له أنصارا أو يعطيه مساحة هدنة
داخلية. ولقد سمعنا أن خطاب كل منقلب هو بالقوة خطاب شعبوي وأن وراء الخطاب الجميل
يكمن شيطان رجيم، ومن لُدغ من حنش يُخيل إليه أن كل حبل حنش (وأنا أكتب من
تونس
والله غفور رحيم).
لكن وجب التنبيه إلى أن خطاب التحرر من الهيمنة الفرنسية سابق على هذا
الانقلاب، وقد انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي بلغات أفريقية (لم نفهمها) وبلغات
أخرى وصلنا مضمونها جليا. توجد موجة غضب عارمة ضد
فرنسا في مستعمراتها القديمة
استعادت خطاب حركة التحرر الوطني وتدعو إلى قطع كل صلة مع المحتل.
فكرة التحرر من فرنسا تروج وتكبر وتوحد جمهورا أفريقيا كبيرا، ومهما كانت نية الانقلاب تجاهها فإننا نراه إما يخضع لها أو أنها تتجاوزه وربما تتحول إلى فكرة قائدة تنجز ثورتها على الجميع
هل قام انقلاب النيجر فعلا على مضمون هذا الخطاب وتوّجه بحركة سياسية أم
أنه يسرق روح الخطاب ويخطط لسلطة غاشمة؟ كل ما قرره الانقلاب حتى الآن يصب في خانة
تحرير بلاده من الهيمنة الفرنسية، وهو ما يحرض خطاب الحرية في بلده وخارجها، حيث
نتوقع وصول روح التحرر إلى كل مستعمرات فرنسا القديمة. وهناك على الأقل في الجزائر
نغمة شعبية عالية ضد فرنسا، والسلطة القائمة لا تقف ضدها وتسمح لها بالتعبير عن
نفسها.
فكرة التحرر من فرنسا تروج وتكبر وتوحد جمهورا
أفريقيا كبيرا، ومهما كانت
نية الانقلاب تجاهها فإننا نراه إما يخضع لها أو أنها تتجاوزه وربما تتحول إلى
فكرة قائدة تنجز ثورتها على الجميع. تفاؤل مفرط؟ نعم لقد سقطت فكرة أن العالم بلا
فرنسا لا يساوي شيئا، وهي جملة يرددها أنصارها في تونس. صنم فرنسا الأفريقي انكسر
في النفوس ولا نراها تفلح في استعادته بالانقلابات مرة أخرى.
هل تقوم حرب بالوكالة؟
ليس لدينا معلومات كافية من النيجر عما يجري هناك، لكن نرى تشكل جبهتين قد
تصلان إلى الاشتباك العسكري؛ إحداهما (الايكواس) يتوافق خطابها مع خطاب رئيس فرنسا
وتصب في أجندته الأفريقية استعادة النيجر لنفوذ فرنسا، أي استعادة وضع هيمنتها على
مناجم اليورانيوم ومخزون الذهب التي يبدو أنها فقدتها في أول قرار اتخذته قيادة
الانقلاب، أما الثانية فهي جبهة ضحايا فرنسا حيث جرح توماس سنكارا لا يزال مفتوحا.
كلما تبينت نوايا التدخل العسكري في النيجر يزداد خطاب التحرر من فرنسا مصداقية، أما خطاب مقاومة الإرهاب والجماعات وبوكو حرام.. الخ، فأظنه صار خطابا مثيرا للسخرية، فهو خطاب يستحضر لتبرير تدخلات عسكرية غير مشروعة، فضلا على أن هذه الجماعات ظهرت أو زرعت وخربت الداخل ولم تمس المحتل بسوء، لذلك فهي بلا مصداقية عند من يستمع إلى خطاب التحرر
كلما تبينت نوايا التدخل العسكري في النيجر يزداد خطاب التحرر من فرنسا مصداقية،
أما خطاب مقاومة الإرهاب والجماعات وبوكو حرام.. الخ، فأظنه صار خطابا مثيرا
للسخرية، فهو خطاب يستحضر لتبرير تدخلات عسكرية غير مشروعة، فضلا على أن هذه
الجماعات ظهرت أو زرعت وخربت الداخل ولم تمس المحتل بسوء، لذلك فهي بلا مصداقية عند
من يستمع إلى خطاب التحرر.
لكن أليست هذه الموجة التحررية تمويها وتغطية لدور روسي صيني في أفريقيا؟
يحرض الدول على فرنسا ليحل محلها قوة استعمارية جديدة؟ هذا احتمال كبير وربما تكون
خطابات التحرر مجرد تلهية ويكون تفاؤلنا بها غباء آخر يقارن بغباء تصديق "التطبيع
خيانة عظمى"، وهي جملة ضيعت بلدا وشعبا.
لكن فيما انكشف لنا من تاريخ الهيمنة الاستعمارية لم نر ولم نعش أسوأ من
الاحتلال الفرنسي، وها نحن نشهد تعرية الاتفاقيات المبرمة مع الدول الأفريقية منذ
الاستقلالات الصورية، وكنا نظنها دولا مستقلة فانكشفت عن قهر بلا نظير في التاريخ.
ومهما كانت نوايا الروس أو الصين في أفريقيا، فإن من قدر على التحرر من فرنسا لن
يعجزه غيرها فطعم الحرية لذيذ.
نكتب هذا من تونس وقد وهمنا أن من ذاق طعم الحرية لا يتنازل عنه أبدا، لكن
تجربتنا علمتنا أن الردة ممكنة ونحن بذلك لا نرقى إلى موقع نصح الأفارقة في ما
يفعلون بثورتهم على فرنسا (ولو أنها لا تزال رغبة سابقة على الفعل). فقط نذكر
الأعقل منهم أنه في كل بلد خضع للاحتلال الفرنسي زرعت نخب مالية وثقافية وعسكرية
صنعتهم القوة الاستعمارية على هواها وملكتهم مقاليد بلدانهم، وهم الممثلون
الحقيقيون لنظام مصالحها من وراء الحدود، وهم من يظن أن العالم لا يكون بلا فرنسا.
هذا هو الطابور الخامس الذي تحكم به فرنسا مستعمراتها (أكثر من الانقلابات
العسكرية) وهم من يضمن مصالحها، فإذا كان هناك مشروع تحرر من هيمنة فرنسا فإن نقطة
البداية تكون من التنبه لطابورها والبدء بقطع يده عن سلطة المال والأمن والسياسة
في أي بلد يروم التحرر.