جاء قرار البنك المركزي
المصري الأخير برفع نسبة
الفائدة إلى 19.25 في
المائة مفاجئا للمحللين، الذين توقعوا تثبيتا لسعر الفائدة، حيث يرون أن المشكلة
الرئيسية للاقتصاد المصري هي نقص الدولار، حيث أن نقص الدولار تسبب في ظهور سوق
موازية، ساهمت أسعارها في
رفع معدلات التضخم.
ولأن لكل قرار
اقتصادي أيا كانت مزاياه وسلبياته، فإن مهمة صانع
القرار هي اتخاذ القرار الذي تزيد منافعه عن مضاره، ولهذا نرى أن ما تم من رفع
للفائدة تزيد مضاره كثيرا عما يحققه من منافع، ونبدأ بالمنافع التي سيبررون بها
قرار الرفع، حيث سيكون المبرر الأول هو إغراء الجمهور بإيداع جانب مما لديه من
سيولة بالبنوك، للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع مما يقلل من السيولة لديهم،
الأمر الذي يؤدي لخفض الطلب على السلع والخدمات وبالتالي استقرار الأسعار.
إلا أن تلك الفرضية غير صحيحة وذلك من خلال تصريحات رسمية، فالبيان
الصادر عن البنك المركزي المصري الخاص بزيادة الفائدة، ذكر أن معدلات التضخم
العالية خلال شهر حزيران/ يونيو الماضي جاءت نتيجة لاستمرار صدمات العرض، أي نقص
المعروض من السلع، وأضاف أنه يستهدف معدلات التضخم المتوقعة وليس معدلات التضخم
السائدة، حيث يتوقع المركزي بلوغ معدلات التضخم ذروتها خلال النصف الثاني من العام
الحالي.
وهكذا فإن المركزي يرفع الفائدة تحسبا لارتفاع التضخم المتوقع، ويمكن
هنا تعضيد وجهة النظر تلك بتوقعات أثر انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب
الأوكرانية، وضرب روسيا لمنشآت حبوب أوكرانية على أسعار الحبوب وزيوت الطعام،
وتوقعات ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء محليا، وكذلك أثر خفض قيمة الجنيه المصري
أمام الدولار والمتوقع حدوثه بالشهور المقبلة على الأسعار.
الرفع 10 بالمائة للفائدة لم يخفض التضخم
لكن تلك الرؤية خالفها محافظ البنك المركزي نفسه خلال حضوره
الاجتماعات نصف السنوية لصندوق النقد الدولي، بقوله حينذاك إن رفع الفائدة لن
يساعد في تخفيف التضخم، وإن الأمر يتطلب إجراءات أخرى يعمل عليها بالتنسيق مع
الحكومة وتحتاج لعامين أو أكثر.
ومسألة سحب السيولة من أيدي الجمهور لتقليل الطلب على السلع والخدمات،
مشكوك بصحتها في ضوء تراجع القدرة الشرائية لدى غالب الجمهور، بسبب الإرتفاعات
السعرية المستمرة منذ عام 2016، وتراجع مبيعات العديد من الشركات والمحال التجارية.
كذلك فإن وسيلة رفع الفائدة لمواجهة التضخم قد تم تجربتها بالعام
الماضي والحالي، حتى بلغت نسبة الزيادة عشرة بالمائة قبل الزيادة الأخيرة، ومع ذلك
لم تتراجع الأسعار، بل إن المركزي نفسه يتوقع بلوغها ذروتها خلال النصف الثاني من
العام الحالي.
مع وجود عامل رئيسي يتغافل عنه الرسميون، وهو الإضطراب بالنهج الذي
يمارسه البنك المركزي تجاه السيولة بالأسواق، والتي سعى لسحبها من خلال رفع نسبة
الإحتياطي القانوني من ودائع البنوك لديه بلا تكلفة، وقيامه بالسحب الدوري لفوائض
السيولة لدى البنوك بعائد، لكنه بنفس الوقت استمر في طبع النقود بقيمة 217 مليار
جنيه خلال الشهور الأربعة، الممتدة من آذار/ مارس وحتى حزيران/ يونيو من العام
الحالي.
وهو ما نتوقع الاستمرار به في ضوء تسبب رفع الفائدة الأخير في زيادة
عجز الموازنة، مع إعلان البيان المالي لموازنة العام المالي الحالي، تسبب زيادة
الفائدة بنسبة واحد بالمائة في زيادة تكلفة فوائد الديون الحكومية بالموازنة بقيمة
33 مليار جنيه.
وهنا سيقول البعض ولكن أسلوب رفع الفائدة ساهم خلال عامي 2016 و2017
في تراجع معدلات التضخم، وهذا صحيح لوجود عوامل أخرى مساندة وقتها غير موجودة
حاليا، وأبرزها علاج مشكلة نقص الدولار والقضاء على السوق السوداء وتوحيد سعر
الصرف حينذاك، وهي أمور غير موجودة حاليا .
فإذا كانت البنوك المصرية قد سدت النقص الدولاري بعد مرور ستة أشهر
من اتفاق مصر مع الصندوق في تشرين ثاني/ نوفمبر 2016 ، فإنه بعد مرور سبعة أشهر
من الاتفاق الأخير أواخر العام الماضي، لمصر مع الصندوق فقد تفاقمت مشكلة نقص الدولار بالبنوك حاليا.
وهكذا توجد بيئة اقتصادية حاليا مختلفة تماما عما كانت عليه عام 2016،
أبرزها تغول دور الجهات السيادية على الدور الإقتصادي للقطاع الخاص، وقيود
الإستيراد التي أدت لنقص الواردات وفي نفس الوقت نقص الصادرات، لعدم توفر المواد
الخام ومستلزمات الإنتاج المستوردة، وإلغاء مبادرات الإقراض التي تبناها البنك
المركزي، لإقراض قطاعات الصناعة والزراعة والعقار والسياحة بفائدة منخفضة، وإنخفاض
التصنيف الإئتماني للبلاد، وهكذا يأتي رفع الفائدة كعامل إضافي يؤدي لمزيد من
التضخم.
الفائدة السلبية طاردة للأموال الساخنة
ونأتي للمبرر الثانى لرفع الفائدة وهو محاولة جذب الأموال الساخنة
لمصر لشراء أدوات الدين الحكومي، كي تساهم في تقليل العجز الدولاري الحالي، وهنا
نذكر أن متوسط الفائدة على أذون الخزانة المصرية قبل الرفع الأخير للفائدة كانت
حوالي 24 بالمائة، تصل إلى 19 بالمائة بعد خصم الضرائب البالغ نسبتها عشرين
بالمائة .
لكن تلك النسبة للفائدة تقل كثيرا عن معدل التضخم الرسمى لجهاز
الإحصاء، الذي بلغ 36.8 بالمائة بشهر حزيران/ يونيو الماضي، مما يجعل الفائدة
الحقيقية سلبية حتى بعد الرفع الأخير للفائدة بنسبة 17.55 بالمائة، كما تبلغ
الفائدة السلبية 21.75 بالمائة بالمقارنة لمعدل التضخم الصادر عن البنك المركزي.
قرار رفع الفائدة الأخير كان رسالة إلى صندوق النقد الدولي، أن مصر تسير بالمسار الذي حدده، بداية من بيع حصص من الشركات العامة إلى رفع الضرائب إلى رفع الفائدة، وصولا إلى الخفض المرتقب للجنيه المصري، وهو ما اعتبره البعض قرارا سياسيا مثلما حدث مع قرار تثبيت سعر الصرف، وخطوة على مسار إقتصادي يتنافى مع مصلحة المنتجين المصريين وبسطاء المصريين.
بينما توجد عوائد موجبة بأكثر من ثلاثين دولة بالعالم حاليا، منها
دول متقدمة مثل سويسرا وكوريا الجنوبية وكندا وهونغ كونغ، ودولا ناشئة مثل جنوب
أفريقيا والهند والفلبين وأندونسيا وماليزيا، ودولا عربية مثل السعودية والإمارات
والبحرين وسلطنة عمان وقطر والعراق والأردن، فإنه من الطبيعى عندما يجد المستثمر
الفائدة بالولايات المتحدة 5.5 بالمائة ومعدل التضخم ثلاثة بالمائة، والفائدة
بالصين 3.55 بالمائة والتضخم صفر بالمائة، فمن الطبيعي أن يتجه بإستثمارته لدول
الفائدة الموجبة.
والمبرر الثالث هو زيادة أرصدة الودائع بالبنوك المصرية، والتي يتم
توجيه معظمها لشراء أدوات الدين الحكومي المصري لسد عجز الموازنة، تحت ستار تحقيق
عوائد أعلى للمودعين المصريين تساعدهم على مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، وهو أمر
سبق تنفيذه بالسنوات الماضية من خلال طرح شهادات إيداع بفوائد عالية سواء على
الودائع بالجنيه المصري أو بالدولار .
كان آخرها لشهادات الإيداع بالجنيه بفائدة 18 بالمائة في آذار/ مارس
من العام الماضي، وبفائدة 17.25 بالمائة في تشرين أول/ أكتوبر الماضي، وبفائدة 19
بالمائة في نيسان/ أبريل الماضي، وبفائدة 40 بالمائة مدفوعة مقدما للشهادات
البالغ مدتها ثلاثة سنوات أي بعائد سنوي 13.3 بالمائة الشهر الماضي، ورغم ذلك فقد
انخفضت أرصدة الودائع غير الحكومية بالجنيه المصري بشهر نيسان/ أبريل الماضي عن
الشهر السابق رغم احتساب الفوائد ضمن الأرصدة، مع توجه الكثيرين للإستثمار بالذهب
والدولار.
موارد قليلة للشهادات الدولارية
وفيما يخص شهادات الإيداع الدولارية فقد تم إصدار شهادات بعائد مرتفع
تخطى نسبة الخمسة بالمائة بشهر تشرين أول/ تشرين الماضي، لكن قيمة زيادة الودائع
الدولارية خلال الشهر بالبنوك من كل المصادر إلى جانب الشهادات كانت 756 مليون
دولار عن الشهر السابق لإصدار الشهادات، وبالشهر التالي انخفضت أرصدة الودائع الدولارية من كل المصادر بقيمة 463
مليون دولار عن شهر إصدار الشهادات الدولارية، وهو ما يدحض مزاعم بعض الرسميين
بالبنوك عن تحقيق تلك الشهادات أرقاما مليارية.
ومن هنا يمكن تفهم إصدار شهادات إيداع دولارية بفائدة سبعة بالمائة
باليوم السابق لإجتماع المركزي لرفع الفائدة الأخير، بعد بلوغ العجز بين الأصول
والإلتزامات الأجنبية بالجهاز المصرفي 27 مليار دولار بحزيران/ يونيو الماضي،
وانخفاض المتوسط الشهري لزيادة الدولارية من 493 مليون دولار بالعام الماضي، إلى
365 مليون دولار بالنصف الأول من العام الحالي، وانخفاض قيمة تحويلات المصريين
العاملين بالخارج منذ عدة فصول.
من كل ما سبق يتبين أن قرار رفع الفائدة ضار بالمنتجين المنهكين،
والذين سيحملون تلك التكلفة الإضافية للتمويل على أسعار المنتجات، مما يقلل
تنافسيتهم داخليا وخارجيا، الأمر الذي سيؤثر بالسلب على مبيعاتهم وبالتالي على
العمالة لديهم، رغم أن المأمول كان معاونة المنتجين محليا لإنتاج المزيد من السلع
لتهدئة الأسعار بالداخل، والقيام بالمزيد من التصدير لجلب عملات أجنبية تقلل
الفجوة الدولارية.
مما يدعم القول بأن قرار رفع الفائدة الأخير كان رسالة إلى صندوق
النقد الدولي، أن مصر تسير بالمسار الذي حدده، بداية من بيع حصص من الشركات العامة
إلى رفع الضرائب إلى رفع الفائدة، وصولا إلى الخفض المرتقب للجنيه المصري، وهو ما
اعتبره البعض قرارا سياسيا مثلما حدث مع قرار تثبيت سعر الصرف، وخطوة على مسار
إقتصادي يتنافى مع مصلحة المنتجين المصريين وبسطاء المصريين.