تميل عقلية قيادة "فتح" إلى التفرد والهيمنة في صناعة القرار
الفلسطيني، وذلك منذ سيطرتها على منظمة التحرير في صيف 1968 (وتوليها الرئاسة في شباط / فبراير 1969). وحتى هذه اللحظة لم تقدم أي تجربة لشراكة حقيقية، تعبّر بشكل جاد عن روح التداول السلمي للسلطة.
تشير التجربة التاريخية إلى أن قيادة "فتح" كانت تقوم
بالمبادرة لتفعيل ملف
المصالحة مع القوى الفلسطينية المعارضة، (وخصوصا حماس) في
إحدى ثلاث حالات:
أولا ـ عندما تكون هناك استحقاقات كبرى أمام قيادة الرسمية
الفسطينية، تريد قيادة فتح تمريرها؛ سعيا لإظهار أن هذه الاستحقاقات تمت في إطار
"الديموقراطية" الفلسطينية، وبوجود القوى الفلسطينية كافة، بما فيها
المعارضة. وقد حدث ذلك عندما دعت "فتح" "حماس" للمشاركة
بممثلين عنها في المجلس الوطني الـ 19 في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 (المؤتمر الذي
أعلن استقلال فلسطين مستندا على قرار التقسيم، ووافق على قرار 242). كما حدث
الشيء نفسه قبيل انعقاد المجلس الـ 21، الذي كان يهيئ للمشاركة في مؤتمر مدريد،
وكذلك حوارات القاهرة في كانون الأول/ ديسمبر 1995 قبيل انتخابات رئاسة السلطة والمجلس
التشريعي، واجتماعات القاهرة 2003 ـ 2005 التي سعت للخروج من انتفاضة الأقصى،
والتعامل مع استحقاقات مشروع "خريطة الطريق" للتسوية السلمية، التي طرحها
الرئيس الأمريكي جورج بوش ونالت دعما دوليا، وغيرها.
ثانيا ـ عندما تعاني "فتح" من أزمات في شعبيتها ومصداقيتها،
وخصوصا عندما ترتفع شعبية حماس وخطّ المقاومة في الانتفاضات وفي مواجهة العدوان
الإسرائيلي، وهذا ينطبق على حوارات القاهرة خلال 2002 ـ 2003 في أثناء انتفاضة
الأقصى التي تصدرت حماس فيها العمل المقاوم، وعلى الحوارات بعد العدوان الإسرائيلي
على قطاع غزة في 2008 ـ 2009، و2012، و2014، وما كان يرافقه من أداء بطولي
للمقاومة وتصاعد شعبيتها، والتفاف جماهيري فلسطيني وعربي وإسلامي حولها، مصحوبا بحالة غضب على القيادة الفلسطينية (قيادة فتح) المرتبطة باتفاقات أوسلو، والغارقة
في التنسيق الأمني مع العدو، والساعية لضرب مسار المقاومة. كما ينطبق على اللقاءات
الأخيرة في إسطنبول والقاهرة إثر الأداء البطولي للمقاومة في جنين. وتسعى قيادة
فتح بذلك إلى محاولة تنفيس وتبريد حالة التألق والوهج التي تعيشها قوى المقاومة،
وتخفيف اللوم والمسؤولية عنها، وإعادة "شرعنة" نفسها في الوسط الفلسطيني.
ثالثا ـ عندما تعاني قيادة "فتح" من ضغوط خارجية لا ترغب
بالتجاوب معها، وعندما يحدث تعثر في مسارات التسوية، أو في علاقاتها الإسرائيلية
والعربية والدولية، فتلجأ إلى نوع من إعادة "التموضع" (والاحتماء
المؤقت بغطاء الوحدة الوطنية) للتلويح للآخرين بوجود بدائل أخرى لديها، لدفعهم
تكتيكيا لتحسين مواقفهم تجاهها. ولعل تنشيط ملف المصالحة في صيف 2020 في أجواء
الضغوط الأمريكية لإنفاذ "صفقة القرن" التي عرضها الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب، مثال واضح على ذلك.
وثمة حالة تَجاوب أخرى، لا ترتبط بالمبادرة الذاتية لقيادة "فتح"،
وإنما بالتجاوب التكتيكي المحسوب مع المبادرات العربية والإسلامية الداعية
للمصالحة وإنهاء الانقسام؛ خروجا من الحرج، وحتى لا تُتهم بأنها السبب في إعاقة
المصالحة. وهذا ينطبق على عدد من المبادرات واللقاءات تحت الرعاية المصرية، كما
ينطبق على مبادرات عديدة سعودية ويمنية وقطرية وسنغالية وتركية، وينطبق أيضا على
مبادرة روسية في الإطار الدولي. ومن أحدثها وأكثرها بروزا المبادرة الجزائرية،
التي بذلت القيادة الجزائرية جهدا هائلا لإنجاحها؛ وظهر لها واضحا انعدام
الجدية لدى القيادة الفتحاوية في إنفاذها.
كما اضطرت قيادة لهذا النوع من "المجاملات"، ولو جزئيا،
مع صعود تيارات "الإسلام السياسي" في الثورات العربية خصوصا في الفترة
2011–2013، وذلك لامتصاص واستيعاب الآثار الناتجة عن تصاعد شعبية "حماس"
وخط المقاومة، وسط القوى الصاعدة لقيادة عدد من الأنظمة العربية، وخصوصا مصر.
***
وغالبا ما كانت قيادة "فتح" تقوم بتفريغ المبادرات أو أي
اتفاقات ناتجة عنها، من خلال وضع العصي في العجلات، من خلال اشتراطات لا يمكن
تنفيذها كالتزام "حماس" بـ"الشرعية الدولية" وشروط الرباعية
أو الالتزام بالاتفاقات التي وقعتها قيادة المنظمة (اتفاقات أوسلو)، أو تسليم سلاح
المقاومة في غزة.
بحسب ما يسعى إليه السلوك الفتحاوي القيادي، فإن شراكة "حماس" مهما كان حجمها وشعبيتها، يجب أن يكون من مستوى "الدرجة الثانية". وليس ثمة فرصة حقيقية لتغيير هذا السلوك، إلا بتغيير جذري في العقلية القيادية الفتحاوية، أو بالتراجع الكبير في القاعدة الشعبية لـ "فتح"، أو بظهور معطيات جديدة كتغيّر البيئة العربية والإسلامية باتجاه أكثر دعما للمقاومة والتيارات الإسلامية.
وسعت لتحقيق مكتسبات تكتيكية تراكمية، من خلال عدد من اتفاقات
وترتيبات المصالحة؛ كما في تنازل "حماس" عن رئاسة الحكومة (اتفاق الدوحة
2012)، وحل الحكومة التي ترأسها "حماس" (اتفاق الشاطئ 2014)، وحل "حماس"
للجنة إدارة القطاع وتسليم إدارة القطاع لسلطة رام الله (القاهرة 2017)، وتنازل "حماس"
عن شرط التزامن في إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتغاضيها عن عدم تفعيل
المجلس التشريعي للسلطة قبل الانتخابات (2021). وهكذا، استمرت "فتح"
بالتعامل على طريقة "خذ وطالب" لمزيد من نزع عناصر الشرعية والقوة لدى "حماس"
وقوى المقاومة.
أما انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006، فكانت استثناء ناتجا عن خطأ
لدى حركة "فتح"، ولدى المخابرات العربية والدولية في احتساب الحجم
الشعبي المتوقع لـ "حماس"، إذ لم تتوقع لـ "حماس" الحصول على
الأغلبية، وإنما حضورا "معقولا" تحت السيطرة، يُسهِّل احتواءها
والتعامل معها كأقلية عليها الالتزام بـ"الشرعية الفلسطينية"، التي
تقودها "فتح" وتُمثلها. وهو خطأ "تابت" قيادة "فتح"
عن الوقوع في مثله لاحقا، وكذلك القوى التي تساند بقاءها على هرم السلطة. وعلى أي
حال، فقد قامت قيادة "فتح" (من خلال استخدام صلاحيات الرئيس وقيادة
منظمة التحرير) بتعطيل المجلس التشريعي، وإفشال تشكيلها للحكومة، وإفراغ انتصار "حماس"
من محتواه.
***
خلفيات السلوك الفتحاوي وأسبابه
استفادت قيادة "فتح" من خلال قيادتها لمنظمة التحرير
والسلطة الفلسطينية، ونتيجة دخولها في مسار التسوية السلمية، من وجود قبول واعتراف
إسرائيلي وعربي ودولي بها؛ وهو ما شكَّل لها رافعة باعتبارها تملك
"الشرعية" المعترف بها. وقد استخدمت هذه المزيَّة في الضغط على "حماس"
وقوى المقاومة ومحاصرتها، وفي إدارة ملف المصالحة دون الاضطرار لتقديم تنازلات
بسبب عدم وجود أي ضغوط جادة عليها، هذا مع الإشارة إلى الضغوط الأمريكية
الإسرائيلية، التي كانت تتجه دائما نحو عرقلة المصالحة وعمل "فيتو" على
الشراكة الحقيقية مع "حماس"، بل وتهديد قيادة "فتح" بمعاقبتها
ومعاقبة المنظمة والسلطة؛ مما أعطى مبررا لقيادة فتح لطلب المزيد من التنازلات من
"حماس".
وبغض النظر عن اتفاقات المصالحة المعقودة، والدعوات المتجددة
للقاءات؛ فإن قيادة "فتح" لا ترى مصلحة مستحقة في دخول حماس منظمة
التحرير وفق حجمها الحقيقي؛ إذ ترى فيه من ناحية أولى إضعافا كبيرا لمكانتها
وهيمنتها على الساحة. ومن ناحية ثانية إضرارا ماديا ومعنويا بالمكانة الإدارية
والقيادية للكثير من كوادرها، وبمصادر دخلها، وبشبكة علاقاتها من خلال البعثات
التمثيلية والسفارات وغيرها. وهي ترى من ناحية ثالثة أن دخول "حماس"
والقوى الإسلامية وقوى المقاومة، تعطيلٌ لمسار التسوية الذي التزمت به قيادة
المنظمة، وهو ما سيؤدي في حالة إعادة الاعتبار إلى خيار المقاومة، وإسقاط اتفاق
أوسلو، إلى تعرُّض المكانة الدولية لمنظمة التحرير إلى هزة كبيرة تؤدي لسحب
الاعتراف بها من كثير من الدول، مع احتمال قوي لتصنيفها "منظمة
إرهابية"، بناء على القرار الأمريكي والأوروبي بتصنيف حماس حركة إرهابية، وهو
ما سيتسبب برأي فتح بضرر فادح على قضية فلسطين في المحافل الدولية. وترى من ناحية
رابعة أن كل ذلك سيؤدي إلى تَعطُّل فرص إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، وسيبرر
للإسرائيلي استمرار احتلاله وعدوانه، واستمرار حصاره وتدميره للبنى التحتية للضفة
والقطاع.
***
خلاصة
تركزت استراتيجية قيادة "فتح" في إدارة علاقاتها مع "حماس"
وقوى المقاومة، وطوال نحو ستة وثلاثين عاما، على أساس يميل إلى تهميش أو استيعاب "حماس"
ضمن منظومة يمكن السيطرة أو الهيمنة عليها. ولم تسعَ هذه القيادة إلى بناء
استراتيجية قائمة على شراكة حقيقية تراعي أوزان الطرفين على الأرض؛ ومن ثم، فإن
بنية المصالحة في رؤية فتح هي بنية تكتيكية، يجب ألا تضر بمكانتها المهيمنة ولا
بالتزاماتها الاستراتيجية الأساسية؛ ولا بدفع الأثمان والاستحقاقات المتعلقة بها.
وهكذا، فبحسب ما يسعى إليه السلوك الفتحاوي القيادي، فإن شراكة "حماس"
مهما كان حجمها وشعبيتها، يجب أن يكون من مستوى "الدرجة الثانية". وليس
ثمة فرصة حقيقية لتغيير هذا السلوك، إلا بتغيير جذري في العقلية القيادية
الفتحاوية، أو بالتراجع الكبير في القاعدة الشعبية لـ "فتح"، أو بظهور
معطيات جديدة كتغيّر البيئة العربية والإسلامية باتجاه أكثر دعما للمقاومة
والتيارات الإسلامية، أو بتوحّد قوى الإصلاح والمقاومة مدعومة بحالة شعبية جارفة،
مع انهيار أو تداعي السلطة ومؤسساتها.