لطالما فاخرت إسرائيل وقدمت نفسها، منذ احتلال فلسطين قبل 75 سنة بنهجها القمعي والتعسفي بارتكاب مجازر وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ومخالفة جميع حكوماتها الصارخة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة باحتلالها وتوسعها السرطاني الاستيطاني، والتعدي العنصري ومصادرة حقوق الفلسطينيين، بأنها ديمقراطية.
ختمت مقالي الأسبوع الماضي: «إسرائيل على صفيح ساخن داخليا، ومأزومة مع الحليف الأمريكي»! معلقا على كيف دفعت الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفا في تاريخ الاحتلال، لتعميق مأزق الكيان الإسرائيلي. روج هيرتزوغ (الرئيس الإسرائيلي) في خطابه بروباغندا إسرائيلية في الكونغرس بتكراره: «عندما تكون أمريكا قوية، فإن إسرائيل تكون أقوى وأكثر أمنا!». لكن الأكثر نفاقا في خطابه كان اتهامه الفلسطينيين وليس سياسات إسرائيل المستفزة والقمعية-المسؤولة عن تدمير فرص السلام بدعم الإرهاب! بينما يتجاهل إرهاب الدولة الذي بات نهج الحكومات المتعاقبة!
واضح أن إسرائيل على صفيح ساخن داخليا، وتتصدع علاقتها بشكل غير مسبوق مع أمريكا، ما يعمق مأزق الاحتلال. وتجاوز الاحتلال الإسرائيلي بوحشيته ضد ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال ولمواطنيها عرب 1948، بمعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وتوسيع الاستيطان غير الشرعي في القدس الشرقية والضفة الغربية، وشن حروب على دول عربية وحصار غزة منذ 2006، واقتحام مدن الضفة الغربية مثل نابلس وجنين والخليل ومخيمات الفلسطينيين، إلا أن تلك التجاوزات لم تمنع انحياز وازدواجية الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، من توفير الغطاء وحماية إسرائيل بالفيتو 42 مرة في مجلس الأمن من العقوبات وحتى من الإدانة، برغم جميع الخروقات والتجاوزات التي ترتكبها بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين، التي تصل لـ4 مليارات دولار سنويا، وبأسلحة أمريكية.
وبرغم ذلك كله، يصدّق العالم المتحضر في الغرب، برغم ما تثبته الوقائع عكس ذلك، بروباغاندا وتدليس إسرائيل ادعاءاتها بأنها الاستثناء والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وسط صحراء مجدبة من الأنظمة غير
الديمقراطية! لا بل يتبارى الغرب بتهنئة إسرائيل على ذكرى نكبة العرب عام 1948 بإعلان قيام
دولة الاحتلال. هنأت رئيسة المفوضية الأوروبية بالذكرى الخامسة والسبعين عاما على قيامها، بخطاب غلبت عليه كثير من التجاوزات والاستفزاز، متجاهلة جرائم الاحتلال والقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن كليّا. ووجهت الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الأمريكي دعوة رسمية مستفزة للرئيس الإسرائيلي هرتزوغ لإلقاء خطاب تاريخي في الكونغرس، قاطعه النواب الديمقراطيون التقدميون؛ احتجاجا على سياسات إسرائيل العنصرية والقمعية، بينما وقف الأعضاء الجمهوريون مصفقين لترهات حكومته، وتقويض السلطة القضائية وإضعاف المحكمة العليا، كما تفعل الأنظمة القمعية الشمولية.
بسبب ارتهان نتنياهو لليمين، وفي ظل المظاهرات المستمرة منذ ثلاثين أسبوعا، وتمرد قطاعات عسكرية في القوات المسلحة، أصبح أضعف رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل.
وبرغم ذلك، لم نسمع انتقادا واحدا، سوى من الرئيس الأمريكي بايدن، الذي تجرأ على الطلب من إسرائيل وقف
التعديلات على قانون القضاء. ومع ذلك، مضت حكومة
نتنياهو المتطرفة بتمرير قانون تقويض القضاء، ومعه قسمت الشارع الأسبوع الماضي بعد مقاطعة المعارضة التصويت، بنتيجة 64-0 متجاهلة مطالب الرئيس بايدن.
وكان الرئيس بايدن نبه من تقويض السلطة القضائية الرقابية، وحث نتنياهو على وقف القانون في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، وحذر من تداعيات الانقسام. وتأخر بتوجيه دعوة لنتنياهو بزيارة رسمية، بسبب سلوك حكومته بالتضييق على القضاء وتسريع وتيرة الاستيطان، وإضعاف السلطة الفلسطينية والقضاء على أي فرصة لحل الدولتين. وطالب نتنياهو بعدم المصادقة على قانون لا يحظى بإجماع واسع من الناخبين؛ لضرره على الديمقراطية الإسرائيلية وعلى العلاقة مع الولايات المتحدة.
خطورة ما تسميه حكومة نتنياهو تمرير قانون الإصلاحات القضائية، تمييع وإضعاف السلطة القضائية، أنها الخطوة الأولى نحو لجم وسحب صلاحيات السلطة القضائية من مراقبة الحكومة وقراراتها، وتعيين وزراء فاسدين ومدعٍ عام خاضع للسلطة التنفيذية، خاصة أن النظام الإسرائيلي يفتقد لدستور مكتوب يكون الفيصل بتحديد صلاحيات السلطات. لهذا تؤدي المحكمة العليا والقضاء دور الرقابة على قوانين الكنيست وقرارات الحكومة معا. لذلك؛ طلبت المعارضة إصدار المحكمة العليا حكمها على القانون المثير للجدل.
هناك مخاوف حقيقية داخل النظام الحاكم؛ أن قانون إضعاف رقابة القضاء هو أولى خطوات استخدام الآليات الديمقراطية لتحويل إسرائيل من كيان ديمقراطي، لكيان ديني غير ديمقراطي، يكرس الانقسام السياسي ويدفع لزراعة بذور الانقسام الأهلي والتطرف، وتعميق الخلافات مع الفلسطينيين، بارتفاع وحشية اعتداءات وتنكيل الشرطة والجيش وبلطجة المستوطنين ضد الفلسطينيين.
شهدنا منذ مطلع العام نهج الحكومة المتطرفة والمستفز بالاعتداءات والحرب على غزة واقتحام كبرى مدن الضفة الغربية ومخيماتها في جنين ونابلس والخليل، وتضاعف اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وآخرها بعد أيام من تمرير القانون نظّم وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير المتطرف أكبر اقتحام لباحات المسجد الأقصى مع 2000 من المستوطنين.
والخطورة، هو تكريس حق اليهود المكاني والزماني بالصلاة، ما يخالف الاتفاقيات حول حق الفلسطينيين بالصلاة والتعبد في المسجد الأقصى.
أضعف الصراع والانقسام مكانة نتنياهو بشكل كبير، وبدا أشبه برهينة يتحكم بها الجناح المتشدد في حكومته الذي يهدد بإسقاطها. وكان ملفتا تأكيد كاتب مذكرات نتنياهو أنه بسبب ارتهانه لليمين، وفي ظل المظاهرات المستمرة منذ ثلاثين أسبوعا وتمرد قطاعات عسكرية في القوات المسلحة، أصبح نتنياهو «أضعف رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل».
ويثبت نظام الاحتلال عجز وعقم أحزابه الليبرالية؛ أحزاب الوسط واليسار، على هزيمة الأحزاب المتطرفة بما فيها الفاشية الدينية، وذلك لخيارات الناخب الإسرائيلي المتطرفة. ما أدى لشلل النظام السياسي الحاكم، والدليل خمسة انتخابات في أقل من أربعة أعوام!
هذا كفيل بإنهاء مفاخرة إسرائيل الفارغة بأنها الاستثناء والديمقراطية الوحيدة (العنصرية ونظام (الأبارتايد) في صحراء الأنظمة الشمولية في المنطقة، لينضم لها كيان الاحتلال، حيث لم يعد الاستثناء كما كان يفاخر، بسقوط نموذجه، برغم غطاء وتملق وتواطؤ الغرب الساكت والراضي عن جميع تجاوزاته!