ثمة قناعة راسخة بأن رئاسة الجمهورية في
لبنان ضائعة في زواريب العبث السياسي، والسلطات على اختلافها في أعلى درجات الشلل،
والإدارة معطوبة واستباحها الفلتان ومافيات الفساد، والمؤسسات الماليّة والعسكريّة
والأمنيّة تعاني وضعاً حرجاً وصراعات متداخلة، ما يثبت أدلة دامغة ولا لبس فيها
على دولة مترنحة في كل مفاصلها، يستبيحها العقم السياسي ويدفع بها التخلف
والمراهقات، إلى سقوط لا قيامة منه.
فيما باتت المسافة الفاصلة عن السقوط
المشؤوم تُقاس بالأمتار، وهو ما يفتح الواقع اللبناني على مرحلة جديدة لا حصر
لمفاجآتها وربما لصدماتها، وإذا كان انتخاب رئيس الجمهورية يشكّل التحدّي الأول
الذي سقطت فيه الطبقة السياسية بعدم توافقها على إنضاج حل رئاسي يُنهي الفراغ
القائم في سدّة الرئاسة الأولى، فإنّ تحدّيين أساسيين يفرضان نفسيهما بندين ملحّين
على خط العلاج السريع:
الأول يتمثل بحاكمية مصرف لبنان، التي يبدو
أنها دخلت في
أزمة شديدة التعقيد مع اقتراب نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض
سلامة آخر الشهر الجاري. وقد جاء البيان الأخير للنواب الأربعة لحاكم مصرف لبنان
وتلويحهم بالاستقالة، ليدفع المنظومة الحاكمة كي تحسم خيارها في هذا السياق، إما
للسعي جدّياً لإيجاد الحلول المناسبة التي ستُدرج في سياقها تعيين حاكم جديد
للمصرف المركزي، وإما ترك البلد في مهب مفاجآت غير محمودة العواقب على الصعيد
النقدي، حيث أنّ الجو العام تسوده بمخاوف من منزلقات خطيرة جداً.
لذا فإن أي صيغة تسوية سيتم الوصول إليها لا
بد لها أن تزيد من الشرخ الداخلي وخاصة أن حزب الله وحركة أمل باتا الأكثر رفضاً
لأي تعيين في موقع حاكم مصرف لبنان لخلافة من رياض سلامة.
ويبرر الثنائي الشيعي هذا الموقف أنه في
إطار تخفيض التوترات الحاصلة بين المسيحيين والشيعة والتي تحتدم منذ فترة، فيما
هناك خيار آخر يتم التلويح به، وهو التمديد لسلامة. الأمر الذي سيفتح توتراً
جديداً مع المعارضة.
أما الثاني متصل بالشغور الحاصل بالمجلس
العسكري، وضرورة إتمام التعيينات فيه، نظراً لشغور مواقع رئيس الأركان ومدير عام
الإدارة والمفتش العام. وإذا كان التوافق قد تمّ على العمل ببعض الإجراءات التي من
شأنها أن تسيّر عمل المؤسسة العسكرية، إلّا أنّ واقع المجلس حالياً وفي غياب تعيين
رئيس للأركان، بات يهدف بصورة واضحة لتقييد حركة قائد الجيش، ويمنع عليه التحرّك
نحو أي نشاط أو زيارة خارج لبنان مهما كانت مهمّة وضرورية، حيث لا يوجد رئيس أركان
ينوب عنه في غيابه.
وثمة من يعتقد أن أسباب رفض تعيين أعضاء
القيادة العسكرية المركزية، يهدف لخلق الفراغ ليتوسع في كل القطاعات، وكي لا يكون
هناك رئيس للأركان قادر على تولي المهام، فيتولى مهام قيادة الجيش الضابط الأعلى
رتبة. ما يفتح المجال على تحلل أوسع في بنية الدولة وخاصة أن الجيش استطاع تحت
إدارة جوزيف عون الحفاظ على تماسكه العقائدي والوطني بعد سقوط مريع لكل مراكز
القوى في القطاع العام نتيجة الانهيار والصراع السياسي والسلاح الغير شرعي، وعليه
يعول فرقاء متعددون على دور قد تلعبه فرنسا أو قطر بالتعاون مع واشنطن لنزع فتيل
الانهيار في الجيش ومصرف لبنان.
ثمة من يعتقد أن أسباب رفض تعيين أعضاء القيادة العسكرية المركزية، يهدف لخلق الفراغ ليتوسع في كل القطاعات، وكي لا يكون هناك رئيس للأركان قادر على تولي المهام، فيتولى مهام قيادة الجيش الضابط الأعلى رتبة.
في مقابل واقع مأزوم محتمل في الموقعين
العسكري والنقدي، طفا على سطح الصراع السياسي الخلافات والصراعات الدائرة في جهاز
قوى الأمن الداخلي، وتدخل فيه الطموحات الشخصية لوزير الداخلية بسام مولوي الساعي
لرئاسة الحكومة عبر التودد للخارج وإهمال الواقع الداخلي، فيما المدير العام
للجهاز عماد عثمان متهم بتقصير فادح في الحفاظ على المؤسسة والدخول في صراعات
بينية وتصفية حسابات داخلية لصالح تيار المستقبل بأجنحته المتعددة عبر التعدي على
أبرز الأجهزة الأمنية والاستخبارية وهي شعبة المعلومات والتي لا تزال قادرة على
تحقيق إنجازات أمنية في مواجهة شبكات التجسس أو التهريب.
وهذه الصراعات التي يتم تسويقها من طرفي
النزاع مولوي وعثمان بالموجبات الإدارية والأمنية، ذهبت لحد المهاترات الإعلامية
والتسريبات والفضائح، الأمر الذي يكرس استفادة مطلقة لحزب الله في هذا الواقع
المتأرجح على اعتبار أن الدويلة تستفيد من اهتزاز الدولة.
بالمقابل يطرح البطريرك الماروني بشارة
الراعي الذهاب نحو عقد مؤتمر دولي حول لبنان، إلا أنّ هذه الدعوة تبدو غير فاعلة.
فكلّ مرة كانت تعجز الطبقة السياسية عن إنجاز الاستحقاقات المتتالية، كتشكيل حكومة
أو انتخاب رئيس، كان الراعي يدعو إلى مؤتمر دولي. واليوم لا مؤشرات دولية إلى
الاستجابة للدعوة الأخيرة.
لذا تبقى هذه الدعوات "نداءات في
الفراغ" ما لم تقترن بخطة تجعلها مهمة إقليمية ودولية. ويعتبر المطلعون أنه إذا
ما أراد الراعي الدفع باتجاه تطبيق الطائف، فعليه أن يحوله إلى قضية ملحة عبر دق
ناقوس الخطر في العواصم المعنيّة، تحت العنوان نفسه الذي يردده في عظاته وفي
مجالسه: "طبّقوا الدستور.. لبنان دولة مدنية لا مركزية حيادية، وإلّا فإنّ
لبنان يفقد الهويّة والسيادة".
وبات لدى الراعي بحسب المطلعين شعور عارم
بالخوف والغضب، من فشل كلّ محاولاته التقريب بين الأطراف الداخلية، عبر عدم قدرته
تحقيق خرق بين الأطراف المسيحية أولاً، حين رفضت القوى المسيحية الجلوس إلى طاولة
حوار في الصرح البطريركي لحلّ المعضلة الرئاسية.
وكذلك في فشل مبادرة الكنيسة مع الثنائي
الشيعي، بعدما توسّط مطران بيروت بولس عبد الساتر والتقى الأمين العامّ لحزب الله
حسن نصرالله وسمع منه جواباً غير قابل للحوار، خلاصته أنّ الحوار يكون حصراً حول
سليمان فرنجية، أو الذهاب لخيارات افضلها الفراغ أو تعديل الدستور ليتناسب مع حجم
الحزب في
السياسة والعسكر.
وعليه، وبعد سقوط كلّ المحاولات والدعوات
إلى عقد جلسات برلمانية متواصلة لانتخاب رئيس ما دام التوافق غير متوافر، جاء كلام
الراعي تأكيداً وتمسّكاً باتفاق الطائف ودعوةً إلى تطبيقه لأنّ بكركي تعتبر أنّ
كلّ أزمة يعيشها لبنان في كلّ استحقاق هي نتيجة استخدام جماعات طائفية سلاح تعطيل
النظام لفرض أجندة مصالحها السياسية، فيما لا تستخدمه لتطبيق إصلاحاته وسير العمل
الدستوري.
وأمام موقف حزب الله وآدائه الرئاسي
والميداني مؤخراً في الجنوب، بات جلياً أن يسعى عبر هذه التطورات من إبراز حقائق
واضحة، منها أنه صاحب اليد العليا ميدانياً وعسكرياً على طول الحدود مع إسرائيل،
بغض النظر عن وجود قوات اليونيفيل، والإصرار الغربي على ضرورة تعزيز صلاحياتها
وتوسيع نطاق عملها.
وهذا الأمر يردّ عليه الحزب ميدانياً،
بالتلويح بالحسم الأمني والجغرافي وهو ما يفترض أن ينطبق على أي محاولة لإعادة
إحياء المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية. حتى وإن كانت لن تصل إلى نتيجة في هذه
المرحلة، إلا أن الأساس يبقى مرتكزاً على أن محور الممانعة هو الذي يمسك بقرار هذه
البقعة الجغرافية لسنوات قادمة لتحقيق مكسب داخلي على غرار محاولات الحزب وحلفائه
لتحقيق مكاسب من صفقة الترسيم البحري.