أعجبت حق الإعجاب وشعرت بصغر شأننا، نحن معشر البشرية العادية، عندما شاهدت أجوبة إيلينا غوردون، والدة المعارض الروسي
فلاديمير كارا ـ مورزا، على أسئلة مراسل البي بي سي في موسكو.
ستيف روزنبرغ هو، في تقديري، أحد أفضل المراسلين على مدى العقود، إذ لم تحظ موسكو بمراسل بريطاني يضاهي روزنبرغ تمكنا ودقة في نقل اختلاجات الحياة العامة، وتصوير غوامض الحكم والسياسة في
روسيا منذ عودة المراسلة المتميزة بريدجيت كندل، هذه الصحفية الرصينة ذات الثقافة الواسعة، التي كانت تبعث تقاريرها المميزة من روسيا في سنوات 1989 ـ 1994 الزاخرة بجسام الأحداث التي آلت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي، ووقوع روسيا في فخ الانفتاح العجول على رياح العولمة من دون أدنى كفاءة اقتصادية أو مناعة سياسية.
وعندما عادت بريدجيت كندل إلى بريطانيا، حدث لها أن شاركت مع بعض زملائها في أحد برامج المسابقات المعرفية، فإذا بها تبزّ الجميع علما بالتاريخ والجغرافيا واللغات (حتى اللاتينية). فلا عجب أن تكون هي الآن أول امرأة على الإطلاق تخلف أجيالا تلو أجيال من الرجال في تولي منصب عميد أعرق كليات جامعة كمبردج: كلية بيترهاوس التي يعود تأسيسها إلى عام 1284.
لماذا أعجبت بإيلينا غوردون وأجوبتها الموزونة التي لم تخرج فيها عن القصد، حتى لكأنها مراقب موضوعي لوضع خارجي لا علاقة لها به؟
لأن الحفاظ على التوازن النفسي عند نزول البليّة والثبات في الشدائد والقدرة على التعبير الموفق رغم شدة الحزن، خصال نادرة لا تتأتّى لمعظم الناس. فقد كان ابنها فلاديمير كارا-مورزا من أشد المعارضين مجاهرة بانتقاد نظام
بوتين طيلة أكثر من عقد، ودبر له النظام، على معهود عاداته الحميدة التي صارت ماركته المسجلة، محاولتي تسميم، ولكنه نجا من كليهما بأعجوبة. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا سافر كارا-مورزا إلى الدول الغربية واضطلع بدور نشيط في التنديد بالاضطهاد الذي يسلطه النظام على أي مواطن يرتكب «جريمة» استقلالية الرأي، وفي إقناع الحكومات والبرلمانات الغربية بالعمل على إحباط مطامع بوتين في أوكرانيا، وفرض عقوبات على عصابة النظام الضالعين في الفساد والانتهاكات، وعلى رجال الأعمال المافيوزيين الدائرين في فلك بوتين.
الحفاظ على التوازن النفسي عند نزول البليّة والثبات في الشدائد والقدرة على التعبير الموفق رغم شدة الحزن، خصال نادرة لا تتأتّى لمعظم الناس.
وألقى العام الماضي خطابا أمام أعضاء مجلس نواب ولاية أريزونا شجب فيه ما سماه «نظام الكرملين الدكتاتوري».
وبعد ذلك كله، بدأ يفكر في العودة إلى بلده! كان يعلم علم اليقين أنه سيعتقل ويحاكم محاكمة صورية، وتنزل عليه عقوبة الحبس القصوى.
كان يعلم ذلك علم اليقين. لكنه كان يرى أن واجبه أن يعود وألا يترك روسيا وشأنها، أي ألا يترك بلاده رهينة عند «الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياة»، الذي كان أبو القاسم الشابي يعني به المحتل الخارجي، ولكنه وصف ينطبق اليوم بدقة أكبر على جميع أنظمة الاحتلال الداخلي (وما أكثرها!)، أي أنظمة الاستبداد التي تعامل شعوبها معاملة العدو اللدود، الذي لا بد أن يحاصر ويدجن بخوف لا رجاء فيه.
ومع من كان حوار كارا-مورزا الدائم في هذا الشأن الخطير؟ مع أمه. كانت الأم تنصح ابنها وتترجاه ألا يعود، مبيّنة له ما يعرفه حق المعرفة من أنه صائر لا محالة إلى الرمي بنفسه بين فكي الوحش.
سألها روزنبرغ عن ذلك، فقالت بإباء وعزة نفس: هذا موضوع ألم ممضّ بالنسبة لي، أنا الأم التي ولدت وربّت. ليس في وسعي النأي بنفسي أو اتخاذ مسافة للنظر إليه على أنه شخصية سياسية فحسب. ذلك أنه، في جوهر الأمر وفي المقام الأول، فلذة كبدي. لقد رجوته وترجيته وألححت في الرجاء ألا يعود إلى روسيا، فوعدني أن يفكر في الأمر مليا. ولكن. كما ترون، كانت نتيجة التفكير سلبية. سألها روزنبرغ: هل عبر عن أي قدر من الندم على عودته؟ فأجابت: كلا، أبدا، أبدا. أنا نادمة. ولكن أتحدث عن نفسي. إنه رجل مبادئ يؤمن بحق أن عليه أن يقف بجانب شعبه، وأنه لن يكون له أي حق في المشاركة في تحديد مستقبل روسيا الديمقراطية لو هرب الآن وآثر الأمان.
الواقع أنه ليس أمام معارضي بوتين إلا المنفى أو الحبس. في ملاحظة ثاقبة، قالت إيلينا؛ إنها كانت تتوقع أن يحكم على ابنها بالسجن 24 سنة و11 شهرا، بغرض الإهانة، لكن المحكمة اختارت البلادة، فحكمت عليه بأقصى العقوبة: 25 سنة.