الصورة صارت أكثر وضوحاً، فلم يعد رفض التعويل على
انتخابات الرئاسة المقبلة شأناً خاصاً بالرافضين لـ30 يونيو وما أنتجته من آثار؛
أخصها أن وزير الدفاع صار رئيساً بقوة السلاح!
فأصوات قوية انطلقت من الداخل ترفض هذه المسرحية، ولا
تعول عليها في إحداث
التغيير المطلوب، وكان أكثرها وضوحاً الموقف المعلن من
المهندس يحيى حسين عبد الهادي، والذي رشحه البعض لينافس الرئيس عبد الفتاح
السيسي في هذه
الانتخابات، وهو الموقف الذي تبناه هاني سليمان، آخر من تم اعتقالهم من القوى
المدنية، وكان قد كتب منشوراً، قال فيه إنه من العبث المراهنة على أن يسمح رئيس الجمهورية السيسي
بأن يكون رئيساً سابقاً!
ومن ثم لا يرى هاني سليمان حلاً سوى في انقلاب عسكري، أو
في ثورة ستتحول إلى فوضى، وهو لا يريدها، مما يعني أن الحل الأقل خسارة هو في هذا
الانقلاب!
السيسي يعلم أنه وقد أوغل في الدماء، وأضر بالأمن القومي المصري، فإنه لا أمان له إلا في الرئاسة، ولهذا سيحرص على أن تكون "مدى الحياة"، حتى وإن كان الدستور بالتعديلات التي أدخلت عليه لا يعطيه أكثر من 6 سنوات تبدأ من حزيران/ يونيو 2024، وأي حديث عن ضمانات يمكن أن يقدمها مقابل منافسته هي نوع من اللهو البريء، فلن يغادر بإرادته
لن يرحل:
ولا يختلف د. سليمان عن موقفنا المعلن من قبل بأن السيسي
سيخوض حرب حياة أو موت تمسكاً بالسلطة، بل إنه لن ينسحب من المشهد بإرادته ولو
تحالف أولياء الأمور كلهم ضده، وكانت هذه رغبتهم جميعاً، ومن الإقليم إلى البيت
الأبيض. فالسيسي يعلم أنه وقد أوغل في الدماء، وأضر بالأمن القومي
المصري، فإنه لا
أمان له إلا في الرئاسة، ولهذا سيحرص على أن تكون "مدى الحياة"، حتى وإن
كان الدستور بالتعديلات التي أدخلت عليه لا يعطيه أكثر من 6 سنوات تبدأ من حزيران/
يونيو 2024، وأي حديث عن ضمانات يمكن أن يقدمها مقابل منافسته هي نوع من اللهو
البريء، فلن يغادر بإرادته ولو أكل الناس أوراق الشجر!
ونتفق كذلك مع د. هاني سليمان في الخوف من الفوضى، لأن
ثورة يناير لن تتكرر ببراءتها إذا خرج الناس، وأختلف معه في تعويله على الانقلاب
العسكري، لأن مثل هذه الأماني تبنى على اعتقاد زائف بأن السيسي يحكم بإرادة الجيش،
وهي الصورة التي يروق له أن تنتشر، ومن خلال تصدير الجيش في أعمال مدنية مثل اختيار
موظفين للتعليم والنقل ونحو ذلك. وهو هنا يتصرف على نحو يجعل من الجيش شريكاً في
كل أعماله، ومنذ تنازله عن تيران وصنافير، إلى تفريطه في مياه النيل، وفي الأولى
قال إنه سأل الجيش ضمن من سألهم إن كانت لديهم مستندات تؤكد مصريتها، وقال إنه
تلقى نفياً لذلك، وفي الثانية قال إنه يطلب من الجيش والبرلمان أن يخبروه بأي تصرف
لازم حيال بناء سد النهضة. والسكوت هو علامة الرضا بحدود تحركاته هو، حتى وإن كانت
لا تتجاوز جلسات التفاوض الفاشلة!
إنه يريد أن يقول إنه مندوب المؤسسة العسكرية في القصر
الرئاسي، وهذا ليس صحيحاً، ولم يكن صحيحاً في أي عهد مضى، ومنذ ثورة 1952. فحركة
الضباط الأحرار هي تصرف خاص من صغار الرتب لا يمكنها أن تكون تعبيراً عن الجيش
وقياداته، ولم يكن اللواء محمد نجيب سوى عنوان لمتن مشوه، ولم يكن عزل نجيب قرار الجيش، الذي لم يُستشر في تصعيد عبد الناصر، ولم يكن الجيش صاحب قرار في
تشكيل مجلس قيادة
الثورة، أو حله، ولم يستشر عبد الناصر الجيش في اختيار السادات
خليفة له. كما لم يأخذ السادات موافقة الجيش على اختيار مبارك بالذات نائباً له،
وإذا كان الاختيار تم وفق شرعية أكتوبر، فلأن السادات اعتبر نفسه هو المتحدث الأول
والوحيد باسمها، فلم يكن مبارك هو التعبير الحقيقي لحرب أكتوبر المجيدة، فيسبقه في
التعبير الأصيل عنها رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، يليه الفريق عبد
الغني الجسمي!
يريد أن يقول إنه مندوب المؤسسة العسكرية في القصر الرئاسي، وهذا ليس صحيحاً، ولم يكن صحيحاً في أي عهد مضى، ومنذ ثورة 1952
فالجنرال الآن ينتحل وضعاً لا يعبر عن الحقيقة، ليقول
للشعب إنه مرشح الجيش، أو أن الجيش معه، وقد كانت الشرطة هي التي تحكم في عهد
مبارك، لكن في النهاية غادر الحكم، ولم ترفض عملية القبض على وزيرها وتقديمه
للمحاكمة. وبجوارنا تجربة السودان وهي على مرمى حجر، فعلى مدى ثلاثين عاماً أسس عمر
البشير جيشه الخاص، واختار قيادات واحداً واحداً وصنعهم على عينه، فلما قامت
الثورة تصرفوا على أنهم أصل الثورة وأبناؤها، وحتى المليشيات التي منحها البشير صفة
عسكرية، ووصف قائدها بحمايته، حاولت في البداية الدفاع عن النظام فلما تأكد لها أن
الثورة ماضية في طريقها لا يضرها من ضل، تصرف حميدتي على أنه من زعماء الثورة!
هذا أمر معلوم، لكن لا أحد يمكنه أن يتنبأ بالثورة، وهي
لن تكون في رقة ثورة يناير المغدور بها، لأنها ستكون تعبيراً عن غضب عارم وليس
لرغبة في الإصلاح، وإذا كان هاني سليمان قد اختزل الأمر في حل وحيد هو الانقلاب
العسكري، فإننا نستبعد هذا الخيار الحالم، لأن الجيش لن يتحرك إلا مدفوعاً بغطاء
شعبي. ومن هنا إذا كان خيار الثورة مستبعداً فقد سقط معه هذا الخيار، ويكون الخيار
المنطقي هو انتظار خروج السر الإلهي!
الجلوس على الرصيف:
إنما هل يجوز للمعارضة أن تجلس على الرصيف، ولا تقوم
باللعب إلا إذا حصلت على ضمانات بنزاهة الانتخابات، الأمر الذي يعني أن السيسي سوف
يعلن بها تخليه عن الحكم طواعية.
فالمؤكد أن انتخابات نزيهة سيطوي الشعب بها ملفه تماماً،
مع خالص احترامنا لأصوات تنحاز له، فلو كان لديه يقينهم في ذلك، لأجرى انتخابات
بحضور العالم كله، لتكون عرساً ديمقراطياً، يخرس به كل خصومه، وهو ليس مغامراً
ليقدم على هذه الخطوة!
الذين لا يعترفون بشرعية الانقلاب العسكري هم في تصالح
مع أنفسهم، فهم يرون أن أي حديث عن المنافسة بالانتخابات هو اعتراف بشرعية السيسي،
وهو موقف يفتقد للذكاء السياسي، لأن هذا الأمر كان منطقيا عندما كان هناك رئيس شرعي
في السجن، ويكون استمرار الموقف الآن هو أنهم يعدون لثورة، وهم لا يفعلون شيئاً من
هذا!
ليس مطلوباً أبداً الاعتراف بشرعية السيسي، وإنما لا بد من التفكير من جديد بطرح سؤال: وما العمل؟ فإن لم تكن لديهم خطة فلا ينبغي النظر إلى أنفسهم على أنهم الفئة الناجية لمجرد موقفهم الرافض للانقلاب!
ليس مطلوباً أبداً الاعتراف بشرعية السيسي، وإنما لا بد
من التفكير من جديد بطرح سؤال: وما العمل؟ فإن لم تكن لديهم خطة فلا ينبغي النظر
إلى أنفسهم على أنهم الفئة الناجية لمجرد موقفهم الرافض للانقلاب!
النخبة المدنية (إن صح التعبير)، التي قامت بتحضير
العفاريت واعترفت به، هي التي ينبغي أن يشغلها كيفية صرفه، وصحيح أنه لن يمنح
ضمانات، ولن يسقط بانتخابات على الأقل في 2024، لو بقيت الأمور على ما هي عليه،
لكن هل يجوز الاستسلام بوضع الأيدي في الماء البارد في انتظار المجهول؟
لا تزال التجربة الخاطئة للمعارضة بمقاطعة الانتخابات في
سنة 1990، درساً لا يغيب عني، فقد كانت المعارضة تعيش في أزهى أيامها منذ عودة حزب
الوفد للحياة السياسية في 1984، فطلبت من مبارك ضمانات مقابل خوضها الانتخابات بعد
تجربتين برلمانيتين نجحتا إلى حد كبير بحسابات المرحلة، لكن مبارك الذي أزعجته
المقاطعة لم يقدم أية ضمانات، وفي النهاية بدأ العد التنازلي لهذه الأحزاب، فلما
جاء عام 2000 وكانت الانتخابات بالإشراف القضائي كانت الأحزاب السياسية في حالة
استسلام كامل، ولم تستطع أن تلملم أشلاءها في انتخابات 2005، مع رسائل الجماهير في
المرتين بما يوحي أن الحزب الوطني انتهى. وكانت جماعة الإخوان مستعدة في
الانتخابات الأخيرة فنجح لهم 88 مرشحاً، ولو كانت الأحزاب هي التي تتصدر المشهد،
لما أمكن لنظام مبارك أن يقول للغرب إن البديل له هو الجماعات الدينية!
الجنرال إذا نجح بسهولة فإن القادم أسوأ ولن تكون هذه الدورة الأخيرة له، والحل هو بنصف العمى، على قواعد إرباك أيمن نور لمشهد انتخابات مبارك، فمن كان يساوره شك أن مبارك هو من سيفوز؟ لكن هذه المنافسة أضعفت موقفه داخلياً وخارجياً
من السيئ تكرار تجربة انتخابات المحلل؛ مرة حمدين صباحي
ومرة موسى مصطفى موسى، لكن من السيئ أيضاً ترك الأمور تجري في أعنّتها، فالجنرال إذا
نجح بسهولة فإن القادم أسوأ ولن تكون هذه الدورة الأخيرة له، والحل هو بنصف العمى،
على قواعد إرباك أيمن نور لمشهد انتخابات مبارك، فمن كان يساوره شك أن مبارك هو من
سيفوز؟ لكن هذه المنافسة أضعفت موقفه داخلياً وخارجياً.
فيما مضى كان السيسي يهمه استكمال الشكل، فكان المحللان
حمدين وموسى، لكن في القادم لن يهمه الشكل وكل ما يعنيه أن يفوز في انتخابات
مريحة، تماما مثلما جرى من "الطقم الجديد" للحزب الوطني برئاسة جمال
مبارك وصديقه أحمد عز في الانتخابات البرلمانية في 2010، فكانت النتيجة التي أزعجت
سياسيا محنكاً هو صفوت الشريف حد قوله مغاضباً: "فلتخرب"، وقد خربت
عليهم فعلاً!
بيد أن استشعار الأزمة ليس لأن الحزب الوطني كان يلاعب
نفسه، ولكن لأن أمامه أحزاباً عدة تخوض الانتخابات، فمثلت نتيجة الانتخابات غضباً
عارماً انتهى بقيام ثورة يناير، ولو انسحبت المعارضة كما فعلت في 1990، لما شعر
الناس بحجم المأساة، وفقدان الأمل في إصلاح النظام بالسياسة!
الأمر يحتاج إلى جلسات عصف ذهني ممن يعنيهم مستقبل هذا
البلد!
twitter.com/selimazouz1