أعلن المحامي والحقوقي ورئيس "جبهة الخلاص الوطني"
التونسية أحمد نجيب الشابي عن قرار اتخذته قيادة الجبهة
المعارضة التي يتزعمها، بتنظيم اعتصام مفتوح وتحركات جماعية يشارك فيها سياسيون وحقوقيون من عدة تيارات.
الشابي الذي كشف أنه زار شقيقه زعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي في
السجن، مع عائلات مساجين الحق العام، كشف أن الهدف من إطلاق "تحرك مشترك
للمعارضين بكل ألوانهم"، هو كسب معارك الحريات واستقلالية القضاء والإعلام والإفراج
عن الموقوفين في قضايا سياسية.
تجميد التناقضات الثانوية
الإعلان عن هذه "الجبهة الموسعة الجديدة للنضال المشترك من أجل
الحريات والديمقراطية والإصلاح" يتزامن مع تصعيد "تنسيقية القوى
الديمقراطية" تحركاتها بالاشتراك مع الحزب الجمهوري من أجل الإفراج عن
الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.
وأعلن رئيس جبهة الخلاص الوطني أن أنصار الجبهة سيشاركون في وقفة
أمام وزارة العدل الخميس المقبل دعت إليها "التنسيقية"، وستشارك فيها
عائلات الموقوفين السياسيين ضمن ما سمي بـ"ملف شبهة التآمر على أمن الدولة
الداخلي والخارجي" .
هذا التطور نحو "تجميد التناقضات الثانوية" والتوافق
على"النضال المشترك من أجل الحريات والإصلاحات وقضايا الشأن العام" يعيد
إلى السطح تجارب عديدة نجح فيها النشطاء السياسيون والنقابيون والحقوقيون التونسيون
في "العمل ضمن جبهات" بصرف النظر عن اختلافاتهم الفكرية والأيديولوجية
والحزبية..
زعماء الإصلاح الفكري
برزت تجارب التحرك المشترك بين النخب التونسية منذ مرحلة ما قبل
احتلال فرنسا لتونس عام 1881. فقد ساهم نحو عشرين من كبار علماء الزيتونة وخريجي المدارس
العسكرية والسياسية والفكرية الأوروبية والعربية المشرقية، بينهم العلامة المصلح
سالم بوحاجب في صياغة أدبيات ووثائق للإصلاح بينها كتاب الزعيم المؤسس لتيار
التنوير والإصلاح خير الدين باش "أقوم المسالك ".
وأورد الخبير في دراسة تاريخ الأفكار والحضارات المعاصرة الدكتور
زهير بن يوسف في حديث لـ
"عربي21"
أن "النخب التي ساهمت في بلورة مشاريع تيار الإصلاح والتنوير بزعامة خير
الدين باشا قبل احتلال فرنسا لتونس ضمت نخبة من خريجي مدرسة باردو الحربية وعلماء
مستنيرين من جامعة الزيتونة، كان بينهم سالم بوحاجب وحمزة الشاهد وعلي العفيف وأحمد
بلخوجة ومحمد بيرم الخامس..
كل هؤلاء العلماء ورموز التغيير والإصلاح ساهموا في صياغة "الكتاب
المرجع" للإصلاحيين الحداثيين والزعماء الوطنيين والديمقراطيين التونسيين
"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
ويستدل أستاذ الدراسات الحضارية في الجامعة التونسية زهير بن يوسف
بما كتبه المفكر التونسي والعميد السابق لجامعة الإعلام التونسية الراحل منصف
الشنوفي في رسالة جامعية أورد فيها أن "مقدمة كتاب المصلح الكبير الوزير خير
الدين باشا التونسي"، التي شرعت للاقتباس والتحديث والإجتهاد والإصلاح، وقعت
صياغتها من قبل العلامة سالم بوحاجب والمصلح محمد بيرم الخامس بعد مشاورات وجلسات
عمل دامت خمسة أعوام، بين 1862 و1967، وشارك فيها نحو عشرين خبيرا من عدة اختصاصات
وتيارات.
الانفتاح الفكري على الآخر
ويؤكد الباحثون في التاريخ المعاصر، بينهم الأستاذ المحاضر
فتحي القاسمي المختص في التيارات الإصلاحية التونسية والعربية والإسلامية في
القرون الثلاثة الماضية، أن "العمل المشترك بين زعماء تيار الإصلاح والتنوير
كان متقدما جدا قبل الاحتلال الفرنسي وبعده".
لذلك فإن العلامة المصري محمد عبده، يرى أن الشيخ سالم بوحاجب مفتي
المالكية كان "الأب الروحي للحركة الإصلاحية التونسية والعربية والإسلامية".
ونوه الشيخ محمد عبده بنجاح سالم بوحاجب في تخرج جيل من العلماء والمصلحين كان من
بينهم العلامة الوطني والمجدد الشيخ الطاهر بن عاشور والد الزعيم السياسي والنقابي
والفكري الوطني محمد الفاضل بن عاشور وهو المفكر المرجع لرواد الحركة الوطنية
التونسية والمغاربية والعربية في القرن العشرين.
وكان الطاهر والفاضل بن عاشور من بين رفاق زعماء حركات التحرر الوطني
في تونس وبلدان شمال إفريقيا والعام العربي، بينهم عبد العزيز الثعالبي والحبيب
بورقيبة وصالح بن يوسف وفرحات حشاد والحبيب عاشور وعبد الكريم الخطابي ومصالي
الحاج ومحمد علي الطاهر وأمين الحسيني..
تجارب العمل الجماعي عربيا وفي تونس
وأورد الباحث في تاريخ الأفكار والحضارات الأستاذ زهير بن يوسف في
تصريح لـ
"عربي21" أن الوطنيين التونسيين والمغاربية والعرب وفي المشرق
العربي الإسلامي تأثروا بتجربة العمل الجماعي والإصدارات الجماعية للصحف والكتب،
على غرار "أقوم المسالك" وجريدة "الجوائب" التي كانت تصدر في اسطنبول
ورعاها الزعيم المصلح اللبناني أحمد فارس الشدياق، الذي بدأ حياته مسيحيا مارونيا
ثم أعلن إسلامه وأصبح من بين رموز التجديد والاعتدال في الفكر العربي الإسلامي .
وقد انفتحت النخب الإصلاحية والوطنية على بعضها مشرقا ومغربا بفضل
تزايد قناعة المصلحين والسياسيين للحوار والعمل الجماعي من أجل التحرر الوطني
والحريات وكسب معارك التقدم والتنمية والتحديث.
في هذا السياق نشرت جريدة
"الجوائب" مقالا عام 1877 تحت عنوان "فتوى عالم الحنفية بالقطر
التونسي أحمد بالخوجة" في الدفاع عن التنظيمات ( الإصلاحات الدستورية
والمؤسساتية ) والمجالس .
قام بصياغة هذا المقال العلامة الزيتوني والمصلح التونسي سليمان
الحرايري. هذا العالم الذي توفي سنة 1877 قام بتدريس العلوم والرياضيات في
الزيتونة وعمل مترجما في القنصلية الفرنسية بتونس وكانت لديه علاقة برجل الدين
المسيحي الفرنسي "فرانسوا بورقاد "وسافر لفرنسا ودرس في معهد اللغات
الشرقية في باريس، كما ترأس في العاصمة الفرنسية تحرير صحيفة "برجيس باريس"
التي أسسها الأديب والصحفي اللبناني الكونت رشير الدحداح عام 1860.
من بين مؤلفات الشيخ سليمان الحرايري "الإرشاد" ضمنه مقدمة مرجعية في الدفاع عن التحديث السياسي
والاقتباس.
ويستنتج الأكاديمي زهير بن يوسف أن "العمل الفكري والسياسي
المشترك" أثر لاحقا في التواصل بين رموز التجديد والنضال من أجل التحرر
الوطني والاجتماعي والسياسي في تونس وشمال افريقيا والمشرق العربي الإسلامي .
من التشرذم إلى "مؤتمر ليلة القدر"
في نفس السياق توقف عدد من السياسيين والباحثين في تاريخ تونس
المعاصر وتاريخ الزمن الراهن، مثل المؤرخ الكبير مصطفى كريم والباحث في تاريخ الحركة الوطني الأستاذ في
الجامعة التونسية محد ضيف الله ، عند "محطات تاريخية رائدة" في تاريخ
الحركة الوطنية التونسية والمغاربية .
من بين أبرز تلك المحطات التي وقع فيها "تجميد التناقضات
الثانوية الفكرية والسياسية" الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات الشعبية التي
نظمت بدعوة من زعماء زيتونيين وصادقيين وقيادات من خريجي المدارس والجامعات
الفرنسية منذ تحركات أساتذة الزيتونة وطلبتها من أجل إصلاح التعليم في 2011 .
كما وحد النضال المشترك ضد الظلم الاجتماعي والاحتلال الأجنبي والقمع
السياسي وطنيين وسياسيين ومثقفين ونقابيين من مدارس مختلفة منذ مرحلة ما بين
الحربين العالميتين، عند تأسيس النقابات والجمعيات والصحف والأحزاب الوطنية. وتوج العمل
المشترك بتنظيم "مؤتمر الاستقلال" المعروف مؤتمر ليلة القدر لأنه جمع
لأول مرة أغلب زعماء التيارات الوطنية يوم 13 أغسطس 1946 التي صادفت الاحتفال
بليلة القدر بحضور زعامات من الحزب الدستوري بجناحيه "القديم" و"الجديد"
وقيادات جامعة الزيتونة بينها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور ورموز منظمات رجال
الاعمال والأعيان بزعامة الطاهر بن عمار، الذي سيوقع في 1955 و1956 وثيقتي
الاستقلال الداخلي والاستقلال التام بصفته رئيس الحكومة الانتقالية.
وقد نجح الوطنيون في مؤتمر ليلة القدر في أن يضعوا حدا للانقسام
والتشرذم وأن يتبنوا لأول مرة مطلب الاستقلال ، بعد أن كانوا طوال عقود يطالبون بـ
"إصلاحات دستورية" وبـ "برلمان تونسي" وبـ "المساواة في
الحقوق والواجبات بين العمال التونسيين والفرنسيين "..
في عهدي بورقيبة وبن علي
وشهدت البلاد تحت حكم الرئيسين بورقيبة (1955 ـ 1987) و بن علي (1987
ـ 2011) صراعات بالجملة بين النخب السياسية والثقافية ، لكنها شهدت كذلك تجارب
عديدة للعمل المشترك وتشكيل" الجبهات السياسية " والتنسيقيات الحقوقية
والنقابية .
كانت من أنجح تلك التجارب عملية تأسيس "الرابطة التونسية للدفاع
عن حقوق الإنسان" في 1977 من قبل حوالي مائة مثقف وشخصية سياسية مناصرة
للحريات العامة والفردية والإصلاح السياسي والاجتماعي، كان بينها مستقلون
وليبيراليون ومنتمون إلى الحزب الدستوري الحاكم وإلى أحزاب المعارضة . وبعد شد
وجذب وافق الرئيس بورقيبة على تقنين منظمة حقوق الإنسان بعد أن وافق مؤسسوها أن
يكون نصف أعضاء هيئتها المديرة مستقلين ومعارضين والنصف الثاني من الحزب الحاكم من
بين الشخصيات الليبيرالية المنفتحة بينهم المحامي ووزير العدل سابقا أحمد شطورو
والأكاديمي عالم الاجتماع الشهير عبد الوهاب بوحديبة. وأسندت الرئاسة إلى الطبيب
الليبيرالي المستقل سعد الدين الزمرلي والأمانة العامة إلى الدكتور حمودة بن سلامة
، وهو طبيب كان قياديا في حزب الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أب الديمقراطية
التونسية المعاصرة الوزير السابق أحمد المستيري.
وفي أوائل عهد بن علي تأسست جبهات للعمل المشترك احداها "الرباعي"،
الذي جمع 4 أطراف سياسية بزعامة أحمد المستيري رئيس حزب الديمقراطيين الاشتراكيين
ومحمد حرمل الأمين العام للحزب الشيوعي وراشد الغنوشي رئيس حزب النهضة وأحمد بن
صالح رئيس حركة الوحدة الشعبية .
بالتوازي تأسس تحالف جبهوي أخر بزعامة أحمد نجيب الشابي الأمين العام
للحزب الاشتراكي التقدمي ومحمد بالحاج عمر الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية و عبد
الرحمان التليلي الأمين العام للحزب القومي (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي) والحزب
اليبيرالي الاجتماعي بقيادة المحامي الحقوقي منير الباجي .
وقد اختلفت الجبهتان في الموقف من التصعيد والمشاركة في تفعيل "مسار
الميثاق الوطني ".
وخلال عقدين من المعارضة لحكم بن علي تشكلت جبهات عديدة للعمل
المشترك داخل تونس وخارجها.
ومنذ "انسحاب" أحمد المستيري من المشهد السياسي تزعم أحمد
نجيب الشابي أغلب مبادرات العمل المشترك. وكانت أنجح تلك المبادرات "جبهة 18
أكتوبر 2005" التي تشكلت من شخصيات مستقلة وأخرى تنتمي إلى حدة أحزاب
ليبيرالية ويسارية وقومية وإسلامية، كان بينها أحزاب العمال الشيوعي والنهضة
وأحزاب والديمقراطي التقدمي وأحد اجنحة " حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ".
ونجحت تلك الجبهة طوال أعوام في توحيد قطاع كبير من النخب والسياسيين
حول 3 أولويات هي : الحريات الإعلامية وحرية التنظم والتظاهر والعفو التشريعي
العام عن كل السجناء واللاجئين السياسيين..
ما بعد "السقوط في الفخ"
لكن تطور الأحداث والتحالفات بعد ثورة 2011 كشف أن كثيرا من قيادات
النخب عادت إلى "تفجير التناقضات" التي وقع تجميدها طوال عقود عندما
كانت أولوية أغلبها توسيع هامش الحريات والتضامن مع ضحايا سياسات القمع والاستبداد ..
وتؤكد الصراعات التي وقعت منذ ثورة 2011 أن "قوى الثورة المضادة"
وعدة "لوبيات مالية وسياسية" نجحت في اختراق حلفاء الأمس، ودفعتهم نحو
"صراعات هامشية على المواقع والكراس والمصالح ".
وكانت الحصيلة انهيار"النموذج التونسي للتعايش والتوافق والتغيير
الديمقراطي والإصلاح" وعودة "المنظومات القديمة" إلى التحكم في
أغلب قواعد اللعبة وفي المشهد السياسي.. وصولا إلى إحالة عشرات من رموز الأحزاب
والنقابات والمجتمع المدني على المحاكم والسجون ..
فهل تنجح تجربة "العمل المشترك" الجديدة في اخراج النخب
وصناع القرار السياسي والمجتمعي في تونس من عنق الزجاجة ، بعد 12 عاما سقط كثير
منهم خلالها في " فخ الاقتتال الداخلي " و"الصراعات الثانوية بين
الإخوة الأعداء"؟
هل توحد الاعتقالات والمحاكمات مجددا الليبراليين واليسار الاجتماعي
والإسلاميين والقوميين المعتدلين؟
إقرأ أيضا: جبهة الخلاص تبدأ اعتصاما مفتوحا بتونس لحل أزمة معتقلي "التآمر" (شاهد)