ربما لم يحظ حدث سياسي في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة باهتمام مماثل للاهتمام الذي أولاه العالم لعودة العلاقات بين المملكة العربية
السعودية والجمهورية الإسلامية
الإيرانية. فقد رحّب أغلب دول العالم بذلك وكذلك دول المنطقة كافة، ما عدا الكيان الإسرائيلي.
هذا برغم أن العلاقات الحقيقية غير مضمونة بلحاظ التاريخ المضطرب لتلك العلاقات. فهناك من العوامل الذاتية لكلا البلدين والظروف الإقليمية ما يفرض نفسه أحيانا، وقد يؤدي إلى توتر العلاقات مجددا. خصوصا أن ما يزيد عن العقود الأربعة منذ حدوث التغيير السياسي في إيران، تميز بتوتر تلك العلاقات حتى في حالة عدم انقطاعها. ولا يقل الاهتمام الحالي بهذه العلاقات عن الزخم السياسي الذي أحدثته عودة علاقات البلدين في العام 1998، بعد احتضان طهران القمة الإسلامية الثالثة عشرة بحضور الأمير عبد الله بن عبد العزيز، الذي كان ولي عهد السعودية آنذاك. يومها تنبأ الكثيرون بأن المنطقة ستشهد تغيرات كبيرة نتيجة تقارب البلدين الكبريين، اللذين يفترض أن يكونا الأقرب بسبب الوجه الإسلامي لكل منهما. ولكن، سرعان ما حدث التغير في العراق، وبدأت دورة من التنافس على النفوذ بين البلدين. وتمخض عن ذلك بروز ظاهرة التطرف والإرهاب التي تغذت في بعض جوانبها على التمويل بالدولار النفطي. ثم جاء الربيع العربي ليساهم في المزيد من الاستقطاب، خصوصا في سوريا والبحرين واليمن، وهو ما انعكس سلبا على علاقات البلدين.
ويلاحظ هنا، أن دورات التغيرات الكبرى في المنطقة ليست طويلة، إذ لا تتجاوز بضع سنوات، ولكنها تنعكس بشكل واضح على العلاقات الإقليمية خصوصا بين إيران والسعودية. صحيح أن البلدين يرفعان راية الإسلام ويعلنان تطبيقهما الشريعة الإسلامية، ولكنهما مختلفان كثيرا على صُعدان شتى: أولها المصالح المتنافرة لكليهما، ثانيها: التحالفات الإقليمية والدولية لكل منهما، وانعكاساتها على علاقات البلدين، ثالثها: سعي كل منهما لاستقطاب الدول الإقليمية الأخرى إلى محوره، رابعها: تعمق شعور كل منهما بأن الآخر يمثل خطرا وجوديا عليه؛ بسبب عمق الشكوك المتبادلة، واضطراب دوائر النفوذ، وعدم انسجام رؤى حكامهما.
هذه الحقائق لن تختفي بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ومن المتوقع استمرار حالة التشكيك والحذر لدى كل من إيران والسعودية. ولكن ما هي وجوه الاختلاف في الظروف المحيطة بالاتفاق الحالي، التي يفترض أن تساهم في تثبيته او تدميره؟
من العوامل التي تدفع المتفائلين للاعتقاد بأنه سوف يستمر فترة أطول وقد يكون دائما، ما يلي: أولا: حماس السعودية هذه المرة لتثبيت العلاقات من خلال الإعلان عن عزمها على تمويل استثمارات كبيرة في إيران، وهو ما لم يحدث سابقا. ولا شك أن الاستثمارات تمثل عنصرا إيجابيا ومطلوبا من قبل طهران، التي عانت من الحصار منذ العام 1979، الذي يشتد باضطراد. فلا يمر أسبوع بدون أن تعلن الولايات المتحدة عن إضافة قائمة من الأشخاص أو المؤسسات أو الشركات الإيرانية لقائمة العقوبات.
ثانيا: شعور كل من الطرفين بضرورة تخفيف بؤر التوتر بينهما لأسبابهما المختلفة. فإيران ترى أن دوائر نفوذها الإقليمية، في ما عدا العراق، أصبحت آمنة من التأثير السعودي، خصوصا في لبنان واليمن. بينما ترى السعودية أن التنافس مع إيران وصل إلى نهايته، وأن لا جدوى من استمرار سياسة المماحكات التي ستحرمها من تحقيق أي نفوذ في هذه المناطق، ومن ثم بلغ الطرفان مرحلة الاقتناع بضرورة الحفاظ على «الوضع الراهن»؛ نظرا لصعوبة تغييره.
ثالثا: أن تغير موازين القوى الإقليمية لا يخدم الطرفين بشكل متساو أو مضمون. فالسعودية اليوم ليست كما كانت بالأمس، لذلك ترى في العلاقة مع إيران عامل قوة يساهم في تحصين ما بقي لديها من نفوذ، بينما ترى إيران أن الاستمرار في التنافس مع السعودية أصبح مكلفا، وأنها ستستفيد من تجميد ذلك التنافس وتثبيت ما لديها من نفوذ، من خلال التهدئة مع السعودية التي تستطيع أن تؤثر على التوازن القلق إذا تم حصرها في زوايا ضيقة.
رابعا: أن إيران ربما قامت بجرد حساب المصالح والخسائر من استمرار قطيعتها مع السعودية، فاستنتجت أن ذلك ساهم في تأجيج الصراعات السياسية والعرقية داخل حدودها. ولم يكن مستغربا أن تعلن أجهزة استخباراتها مرارا عن إلقاء القبض على «خلايا إرهابية» ادّعت أنها ممولة من «دولة إقليمية». حدث هذا في شمال شرقي البلاد خصوصا مقاطعة سيستان وبلوشستان، وكذلك في شمال غربيها، أي في كردستان. وقد كلفها ذلك كثيرا، حيث قتل عشرات الجنود والضباط، بالإضافة للاغتيالات في العاصمة، التي طالت عددا من المسؤولين والعلماء.
في مقابل ذلك، هناك من العوامل ما قد يؤدي إلى تصدّع العلاقات مجددا، منها: أولا: انعدام الثقة المتبادلة بعد عقود من اضطراب العلاقات، ولا يحتاج التصدع كثيرا من الجهد، ويكفي صدور تصريح مثير لزعزعة الثقة غير المستقرة. ثانيها: إحساس كلا الطرفين بالاختلاف مع الآخر، ابتداء بالخصوصيات الدينية، مرورا بالولاءات السياسية، وصولا إلى التحالفات والمصالح المتضاربة. ثالثها: أن الصراع على النفوذ في الإقليم ليس محصورا بالبلدين، بل هناك حكومات طموحة تسعى لتوسيع نفوذها في مناطق تأثير البلدين. فالإمارات مثلا أصبحت تقضم من مناطق النفوذ السعودي، خصوصا في منطقة القرن الأفريقي ومصر وسوريا. وليس مستبعدا أن يكون التنافس (إن لم يكن الصراع) على النفوذ مع أبوظبي، من بين دوافع الرياض للتقارب مع طهران. فمجلس التعاون الخليجي يعاني من أزمات بنيوية نتيجة تنامي رغبة بعض دوله للتوسع. رابعها: أن الوجود العسكري والسياسي الأمريكي في المنطقة، خصوصا في الخليج عامل سلبي جدا، ولن يرتاح لتقارب البلدين إلا إذا خدم مصالحه، خصوصا في مجالات مثل التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي واإانتاج النفطي والوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وليس مستبعدا أن يفتعل حوادث تساهم في تصدع الثقة وإنهاء التقارب. خامسها: أن الاتفاق تم التوصل إليه في مراحله النهائية نتيجة وساطة صينية، وهو أمر لا يروق لأمريكا؛ لأنه يوفر لمنافسها الاقتصادي الكبير موطئ قدم على ضفتي الخليج، الذي تعتبره من أهم مناطق نفوذها في العالم. وليس مستبعدا افتعال أزمات لضمان منع تصاعد الوجود
الصيني فيها، وقد يؤدي ذلك لتراجع قيمة الاتفاق وربما إلغائه.
وتجدر الإشارة إلى بعد مهم، يتمثل بتغييب دور العراق في الاتفاق المذكور، فقد انطلقت فكرته قبل عامين من بغداد التي استضافت عددا من اللقاءات بين وفود إيرانية وسعودية ساهمت في خلق الظروف التي أدت في النهاية لتوقيع الاتفاق بعد وساطة الصين في الساعات الأخيرة. فلماذا تم تغييب الدور العراقي بهذه الصورة المريبة؟ سادسها: أن الكيان الإسرائيلي هو الطرف الأكثر تضررا من التقارب السعودي ـ الإيراني، ومن المؤكد أنه سيسعى لإنهائه بافتعال الأزمات وتحريك الأطراف التي طبّعت معه لتساهم في ذلك، وهذا ليس أمرا مستبعدا، ولا يمكن تجاهل وجود أطراف محلية تمارس عملا سياسيا معارضا للحكومتين الإيرانية والسعودية. ومن المؤكد أن الطرفين اتفقا على عدم دعم أي منها، لكن ذلك لا يعني انتهاءها تماما. فسيظل هناك من يطرح مطالب سياسية في البلدين. وليس مستبعدا أن يؤدي اشتعال الوضع الأمني والسياسي في أي من البلدين، إلى ردود فعل غير محسوبة تعيد الأوضاع إلى المربع الأول وينتهي ربيع التقارب بين البلدين.
الأمر المؤكد، أن المنطقة ستستفيد من تقارب أطرافها الكبرى، فذلك يساهم في تبريد البؤر الساخنة، ويؤدي إلى حلحلة الأوضاع، وإنهاء حالة الجمود، ويكسر ما يسمى «الوضع الراهن».
القدس العربي اللندنية