حين ترقد جمرات تركها عابث في غابة بعد حفلة شواء ماجنة، فتهب
الريح؛ فإن حريقا مستعرا واسعا واقع لا محالة، وسيكون إطفاؤه معقدا، وقد يستمر
طويلا ويتمدد حتى يصل إلى مناطق أخرى، وتلك نتيجة طبيعية حين يعبث مستهتر طائش
بمصير الآخرين وحاضرهم ومستقبلهم.
هذا ما يحدث بالضبط في الأراضي
الفلسطينية المحتلة على يد الحكومة
اليمينية المتطرفة التي تسعى بكثير من العبثية والطيش وانعدام المسؤولية، لإشعال
النار في الضفة الغربية، وفي الداخل الفلسطيني، بين الفلسطينيين والصهاينة من جهة،
وبين حكومة الاحتلال الفاشية والمعارضة القوية من جهة أخرى؛ فهذه الحكومة
المتطرفة، لا تعمل على إشعال حرب طاحنة مع الفلسطينيين بوتيرة كسر العظم وحسب، بل
إنها تعمل أيضا على تفجير الوضع الداخلي
الإسرائيلي، وتحطيم البناء "الديمقراطي
الخاص بالإسرائيليين"..
وفي حال اتسعت جبهة المعارضة، ونشبت حرب أهلية إسرائيلية/ إسرائيلية؛
فإن ذلك مما يصب في مصلحة الفلسطينيين الذين ينتظرون الفرصة المؤاتية لرفع وتيرة
المواجهة، لا سيما إذا تغيرت الظروف وانحاز جزء كبير من قوات الأمن الفلسطينية
للمقاومين من أبناء شعبهم. وهذا غير مستبعد مطلقا في ظل الضعف البادي على أداء
السلطة، واحتمال تفككها أو انهيارها بين ليلة وضحاها؛ وهو ما سيعجل في نهاية ما
يسمى زورا بـ"دولة إسرائيل"، وهو ما يتوقع كثيرون حدوثه.
ظهرت على السطح خلافات عميقة بين أركان الحكم والمعارضة، بل إن بعض فروع جيش الاحتلال بدأت بالتململ، خشية ما قد ينجم عن الإيغال بالتطرف ونتائجه غير المدروسة؛ وخصوصا في سلاح الطيران، الذي رفض عدد من طياريه المشاركة في تدريبات خاصة، احتجاجا على الإجراءات التي يحاول نتنياهو مدعوما باليمين المتطرف القيام بها وعلى رأسها العبث بمنظومة القضاء
ويأتي التشاؤم من مصير دويلة الكيان من قبل أركان الحكم والنخبة
السياسية والإعلامية والمثقفين الصهاينة، وقد ازدادت وتيرة التكهن بنهاية الكيان
حتى وصلت للكنيست، فتصريحات الساسة في هذا الإطار تشي بالخطر الذي ينتظره
الإسرائيليون، وذلك غير مستبعد، فالتاريخ اليهودي يعيد نفسه، والسقوط يأتي بغتة في
كثير من الأحايين، وما سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك دوله عن اتحاد الجمهوريات
السوفييتية الاشتراكية سنة 1991 إلا دليل على إمكانية حدوث تغيير دراماتيكي يجعل
إسرائيل أثرا بعد عين؛ لا سيما أن الصهاينة يقفون على أرض رخوة، وهم العارفون
بأنهم اغتصبوا أرض الفلسطينيين، ونهبوا خيراتها.
وقد ظهرت على السطح خلافات عميقة بين أركان الحكم والمعارضة، بل
إن بعض فروع جيش الاحتلال بدأت بالتململ، خشية ما قد ينجم عن الإيغال بالتطرف
ونتائجه غير المدروسة؛ وخصوصا في سلاح الطيران، الذي رفض عدد من طياريه المشاركة
في تدريبات خاصة، احتجاجا على الإجراءات التي يحاول نتنياهو مدعوما باليمين
المتطرف القيام بها وعلى رأسها العبث بمنظومة القضاء.
ومؤخرا دعت منظمات يهودية في أوروبا والولايات المتحدة اليهود
في الغرب إلى إدانة التطرف اليميني الصهيوني، ودعا بعضها إلى مقاطعة المنتجات
الصهيونية في الغرب. هذا بالإضافة إلى المواقف الغربية التي اتخذتها حكومة
الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا ضد الكيان المحتل، وكان آخرها الانتقاد الشديد
الذي وجهته الولايات المتحدة لوزير المالية اليميني المتطرف "بتسلئيل
سموتريتش"؛ جراء تصريحاته التي دعا فيها إلى محو بلدة حوارة من الوجود، فقد
وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية تصريحات سموتريتش بأنها "بغيضة
وغير مسؤولة، ومثيرة للاشمئزاز".
وإمعانا في العربدة الصهيونية تواصل قوات الاحتلال اعتداءاتها
على الفلسطينيين، واقتحاماتها للأقصى الشريف، فقد اقتحمت مساء أمس الاثنين بلدة
حوارة ثانية، وقامت بعمليات تخريب، كما قامت باعتقال عدد من الشبان الفلسطينيين في
أنحاء متفرقة من الضفة الغربية، وصباح اليوم الثلاثاء قامت مجموعة من المستوطنين
باقتحام الأقصى تحت حماية القوات الخاصة الإسرائيلية.
وفي الأثناء صرح عزام الأحمد القيادي البارز في حركة فتح وعضو
اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية بأن الرئيس عباس أعطى الأوامر
للتصدي للاحتلال وقطعان المستوطنين، ولا أدري عن أي تصدّ يتحدث عزام الأحمد؟ وهل
حقا تستطيع السلطة القيام بالتصدي لقطعان المستوطنين؟ أم أن ذلك نوع من التضليل
الإعلامي؟! كذلك
فقد صرح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حسين
الشيخ، الأحد،
بأن "المنظمة ملتزمة بالمقاومة الشعبية السلمية في مواجهة إسرائيل"، وبأن
السلطة "لا تستطيع منع ردود الفلسطينيين الفردية على الجرائم الإسرائيلية"،
وفي حال صدقت تصريحاته التي تشير إلى عدم إمكانية التصدي للعمل المقاوم، فهي خطوة
في الطريق الصحيح.
لكنني في الحقيقة لا أدري ما الذي تفكر
السلطة الفلسطينية في القيام به لمواجهة السياسات والأهداف الكبرى التي تسعى خلفها
القيادة الصهيونية من عمليات تهويد وقضم للأراضي الفلسطينية وتنكيل بالشعب الفلسطيني،
ومحاولات ضم الضفة الغربية؛ فالوضع على الأرض خطير وينذر بعواقب وخيمة، والمطلوب
من السلطة أن تنتفض على نفسها، ولا تكتفي بالتصريحات المجانية التي لا تترجم على
الأرض قولا وفعلا؛ فالسياسات والإجراءات الصهيونية على الأرض تعني بشكل واضح أن
فكرة حل الدولتين التي تسعى خلفها السلطة منذ أوسلو 1993 حتى اليوم، لا تبدو قابلة
للتحقق في ظل الإجراءات الغاشمة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وآخرها هذه
الحكومة الأشد تطرفا، والأكثر تنكيلا بالفلسطينيين؛ مما جعل الحديث عن حلم
الدولتين نوعا من الصبيانية السياسية والوهم الطفولي، فهذه التخيلات لا تزيد عن
كونها أضغاث أحلام لا سبيل إلى تحقيقها. وكانت عشرون عاما مضت منذ أوسلو حتى اليوم
كافية لتفهم السلطة بأن ما تحلم به لن يكون، مهما كان شكل الحكومة الصهيونية من
بعد..
على السلطة الفلسطينية أن تفهم بأن اتفاقية أوسلو لم تعد موجودة إلا في الخيال، وأن الوصول إلى حلول ترضي الفلسطينيين ضرب من العبث، وأن الحل الأمثل يكمن في أن تترك السلطة الشباب الفلسطيني يقوم بدوره في مقارعة الاحتلال، وألا تتعاون مع الأخير في محاولة لسد الطريق على المقاومة
إن على السلطة الفلسطينية أن تفهم بأن اتفاقية
أوسلو لم تعد موجودة إلا في الخيال، وأن الوصول إلى حلول ترضي الفلسطينيين ضرب من
العبث، وأن الحل الأمثل يكمن في أن تترك السلطة الشباب الفلسطيني يقوم بدوره في
مقارعة الاحتلال، وألا تتعاون مع الأخير في محاولة لسد الطريق على
المقاومة،
وبخلاف ذلك فإن المواجهة بين الشباب المقاوم وأمن السلطة سيشكل كارثة وطنية،
ويأخذنا إلى مربع الاتهام بالتواطؤ والخيانة، وهو ما لا يتمناه الشعب الفلسطيني
بكل أطيافه.
إن المطلوب من السلطة الفلسطينية اليوم
أن تتعامل بشيء من الحنكة مع الخلافات الإسرائيلية البينية، وأن تفكر في الدور الذي
يمكن أن تقوم به لتأجيج الصراع بين طرفي النزاع الإسرائيلي، بما يصب في مصلحة
الفلسطينيين ويعجل بانهيار الكيان المحتل.. هذا هو الدور الذي يجب أن تقوم به
السلطة الفلسطينية، وليس وضع الكف على الخد في انتظار القادم الأسوأ الذي ينتظرها
وينتظر الفلسطينيين..