قضايا وآراء

الأكاديميا العربية وسراب البحث العلمي

CC0
* كتب ساري حنفي وريغاس أرفانتيس كتابا مهما قبل بضع سنوات عن "البحث العربي ومجتمع المعرفة"، وصدر العمل وقتها عن مركز دراسات الوحدة العربية. ورغم تعدد محاور الكتاب إلا أن فكرة واحدة تراودك في ثنايا ما تقرأ، وتبدو وكأنها تطل برأسها عليك في خاتمة كل فصل: وطأة النموذج الغربي على الجامعة العربية والزيف الذي يحيط بكثير من مؤشرات الأداء، بل وحتى الزيف الذي يطبع كثيراً من البحث العلمي نفسه في الفضاء الأكاديمي.

الشكوى من إشكالات الأكاديميا ليست حكرا على المنطقة العربية، الغربيون كتبوا كثيرا في المسألة ولا زالوا يكتبون، لكن الإشكال له طبيعة سرطانية في السياق العربي ويشهد على التشوه الذي يضرب أهم مؤسسة موكَلة بتخليص العالم العربي من تشوهاته، وكأنه مثال عن باب النجار المخلوع -كما يَروي المثل الشعبي في بلاد الشام- لكنْ مع بُعدٍ مأساوي آخر: أن النجار هنا نسيَ النجارة من أساسها لأنه مفتونٌ بتقليد حدّاد ناجح في بلد بعيد، وليته حتى نجح بتقليده.

تورّط العمل البحثي العربي في وهمٍ قاتل وَضَع نصب عينيه هدفا مغريا ولكنه مستحيل: اللحاق بالغرب سيرا على الطريق الذي ساره الغرب. وانحبس الخيال البحثي -في العلوم الدقيقة والهندسية على وجه الخصوص- في محاكاة نموذج غربي فاتن، كلما تقدّمتَ نحوه ذراعاً، سبقكَ أميالا

* لقد تورّط العمل البحثي العربي في وهمٍ قاتل وَضَع نصب عينيه هدفا مغريا ولكنه مستحيل: اللحاق بالغرب سيرا على الطريق الذي ساره الغرب. وانحبس الخيال البحثي -في العلوم الدقيقة والهندسية على وجه الخصوص- في محاكاة نموذج غربي فاتن، كلما تقدّمتَ نحوه ذراعاً، سبقكَ أميالا. هذا هو الجوهر الرمزي لمعنى السراب، فهو ليس وهما بصريا وحسب، بل مفهوم يرمز لأوضاع يبدو الوصول فيها للهدف ممكنا، لكنه يستحيل واقعا. وتنشأ وسط كل هذا دينامية معقدة تجعل مطاردة السراب عملا مؤسسيا وعقيدة بحثية جامعة، تُرصد لها الميزانيات وتُعقد المؤتمرات، إلى أن يصبح التشكيك في جدوى استمرارها خطابا رجعيا مرفوضا، ويُكفَّر حينها -بالمعنى الأكاديمي للتكفير- كل من يدعو السراب سرابا.

* لقد بُني الهيكل البحثي للجامعة العربية المعاصرة -بكامله- فوق هذا الوهم، وتكبّلت أطراف الباحثين -ومخيلاتهم- بقيود العولمة الأكاديمية وأوهام التعاون واتفاقيات الشراكة الأوروبية والأمريكية مع العالم العربي؛ تعاون وشراكة بين أطراف متباينة الأوضاع والقوة والمصالح، يتحول فيها الطرف الأضعف إلى يدٍ بحثية رخيصة للطرف الأقوى، لتتعزز علاقة التبعية وحسب. وهكذا، يُكرِّس باحثو العالم العربي أنفسهم لمسائل لا تمسّ جوهر التخلف الصناعي والعسكري الذي يغرقون فيه وتغرق فيه بلادهم.

* إن الأكاديميا حتما أهمّ بكثير من أن تُترك للأكاديميين، والواقع أنها ليس متروكة لهم أصلا، فالاغتراب الذي تعانيه الحركة البحثية العربية؛ عن بيئتها وتحدياتها ينبع من رؤيةٍ سياسية لا ترى وجودا نِدِّيا للدولة العربية مع سواها، ولا تدرك مكانا لها في العالم بغير جناحٍ غربي ضامنٍ ومعين. نحن نعيش في دولٍ لا تستطيع إنتاج أبسط احتياجاتها، لكنها تتسابق -في ذات الوقت- لاستضافة الفائزين بجوائز نوبل، وأخذ الصور التذكارية معهم، والتظاهر بالاستماع الدقيق لنصائحهم في سبل النهضة العلمية المنشودة. والواقع الذي لم يعد يواري نفسه هو أن الطبقة السياسية العربية تجد في كلام الاستقلالية البحثية والتحرر من ربقة النموذج الغربي حديثا خشبيا لا تريد سماعه، فرهاناتها في مكان آخر تماما.

الاغتراب الذي تعانيه الحركة البحثية العربية؛ عن بيئتها وتحدياتها ينبع من رؤيةٍ سياسية لا ترى وجودا نِدِّيا للدولة العربية مع سواها، ولا تدرك مكانا لها في العالم بغير جناحٍ غربي ضامنٍ ومعين

* ما تقدّم ليس حكرا على العلوم الطبيعية والتقنية، بل يسري كثيرٌ منه على العلوم الاجتماعية، حيث تحوّلت الأجندة البحثية غالبا لمنطق الأولويات الغربية، وصار التعاون البحثي مع الجامعات الغربية والحاجة للنشر في دورياتها وضمان نافذة للتعاون معها مسألة مصيرية لكثيرين. وعلى سبيل المثال، فمهما تفشّت عمالة الأطفال في العالم العربي، فلن تنال ما تناله مسألة الجندر والجنسانية بحثيا، فالثانية أولوية بالقهر الأكاديمي وانعدام الاستقلالية البحثية.

* لقد عرف العراق في أيام عزّه الصناعي والتقني تجربة رائدة في العمل البحثي الأصيل المنطلق من الحاجة الوطنية. وقد وصل بتلك الرؤية البحثية إلى مشارف اختراق في المضمار النووي، عدا عن إنجازات جليلة في ميادين كثيرة أخرى. ولا يمكن لرؤية كهذه -كما حصل عراقيا- إلا أن تنتهي للحظةِ مواجهة مع الآخر الغربي؛ لأنها تجترئ على المُحرَّم العربي الأول والقدح المُعلّى الذي لم نعرف مذاقه يوماً: الاستقلال الحقّ.