لطالما سمعت من أصدقاء وزملاء، أكثرهم من أهل
الإعلام، أن لا وجود لوسائل إعلام مستقلة في أيّ من دول العالم. وعادة ما يتكرر الإجماع حول هذا الرأي الجازم في حالتين محددتين. الأولى: كلما ذاع نبأ عن تورط صحافي غربي في قضية فساد، أو تواطئه مع أجهزة استخبارات، أو كلما نشر تقرير يكشف تكتم وسائل إعلام غربية عن حقائق، خصوصا أثناء الحروب والأزمات.
أما الحالة الثانية التي يتكرر فيها هذا الإجماع فهو شعور الإحباط الذي ينتاب الإعلاميين العرب كلما أتى توجيه «من فوق» كما يقال، بمعالجة الأخبار بطريقة تخدم مصلحة الدولة أو الجهة المموّلة، أو بالانحياز لطرف ضد آخر أو بالتغاضي عن أخبار وحقائق لا تنسجم مع ما يسمى الخط التحريري، الذي هو في معظم المؤسسات العربية مجرد خط سياسي يترجم مواقف مصادر التمويل ومصالحها. عند ذلك يبدأ الإعلاميون في التذمر بعضهم لبعض وفي ندب حظهم العاثر الذي ألقى بهم في مجاهل الغابة الإعلامية العربية.
وقبل أن يخطر لأحد أن يقول: يا جماعة، تعرفون أن المشكلة لا تكمن في الإعلام بل في طبيعة الأنظمة العربية التسلّطية المانعة للحرية وفي سيطرتها المطلقة على كامل قطاع الإعلام بمؤسساته العمومية والخاصة على حد سواء، حتى ينبري واحد أو أكثر للقول في تلخيص ختاميّ حكيم: الإعلام كله هكذا، أفتظنون أن الإعلام في أمريكا مستقل بحق؟ أفلا تزالون تصدقون هذه الخرافة التي تروى للأطفال قبل النوم؟ ألم تقرأوا نعوم تشومسكي؟ ألم تسمعوا أخيرا عن الجريدة الأسترالية الفلانية أو التلفزة الألمانية العلانية؟
البون بين الإعلام الغربي والإعلام العربي في مجال الاستقلالية شاسع إلى حد يكاد يحول الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في الطبيعة أصلا.
صحيح أن الاستقلالية المطلقة لا وجود لها عند الإعلام، تماما كما أن السيادة المطلقة لا وجود لها عند الدول. لكن البون بين الإعلام الغربي والإعلام العربي في مجال الاستقلالية شاسع إلى حد يكاد يحول الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في الطبيعة أصلا.
كلام لا يستقيم منطقا. صحيح أن الاستقلالية المطلقة لا وجود لها عند الإعلام، تماما كما أن السيادة المطلقة لا وجود لها عند الدول. لكن البون بين الإعلام الغربي والإعلام العربي في مجال الاستقلالية شاسع إلى حد يكاد يحول الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في الطبيعة أصلا. ولهذا فإن التعميمات المتسرعة تبقى مجرد تنفيس عن حالة إحباط. وقد لاحظت في الفترة الأخيرة أن هذه التعميمات لم تعد تقتصر على الإعلام، بل إنها أخذت تشمل الفساد، حيث أصبح يقال: عندنا فساد مثلما عندهم هم أيضا فساد، «وما فيه حد أحسن من حد»! والغريب أن بعض من يقول هذا هم من الإعلاميين.
والحق أن الإعلام الغربي يرتكب في بعض الأحيان أخطاء تسهّل إطلاق هذه التعميمات. من أمثلة ذلك أنه تبين أخيرا أن رئيس مجلس إدارة البي بي سي ريتشارد شارب قدم تبرعات مالية لحزب المحافظين الحاكم، وأنه توسط لبوريس جونسون، لما كان رئيسا للحكومة، لتسهيل حصوله على قرض بـ800 ألف جنيه. ومتى كان ذلك؟
قبل مدة وجيزة من تقديم شارب ترشحه للمنصب الأعلى في البي بي سي. مقايضة تامة الأركان! وها أن البي بي سي اختارت أسوأ توقيت ممكن لتنفيذ قرار إغلاق إذاعتها الفارسية العريقة. صحيح أن قرار إغلاق الإذاعتين العربية، «هنا لندن» والفارسية أعلن منذ شهور. ولكن إغلاق
الإذاعة الفارسية (بعد حوالي أسبوعين من إغلاق هنا لندن) يتزامن مع فترة من الغليان الشعبي غير المسبوق ضد نظام الاستبداد في إيران، حيث تمسّ الحاجة إلى أخبار موثوقة من مصدر مستقل.
والأدهى أن هذا القرار دخل حيز التنفيذ في 13 فبراير، أي في اليوم العالمي للإذاعة! فكأنه اغتيال للإذاعة يوم عيدها! ولماذا يحتفي العالم كل عام بالإذاعة؟ لأنها الوسيلة الإعلامية الأقوى والأكثر انتشارا في كوكبنا، ولأنها المصدر الذي يثوب أو يفزع إليه الجمهور عند وقوع جسيم الأحداث، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا.
وقد أثبت تاريخ الإعلام أنه لم يحدث لأي وسيلة جديدة أن أزاحت ما سبقها. فلكل من الجريدة، والراديو، والتلفزيون، والإنترنت دوره المخصوص، بل إن الإنترنت مكّن الإذاعة من تعزيز حضورها وتوسيع جمهورها. إذ تثبت الدراسات أن جمهور الإذاعة الواسع لا يزال مستمرا في الاتساع، حيث أن عدد المستمعين يوميا في فرنسا، مثلا، بلغ أربعين مليون نسمة. كما أن الإذاعة لا تزال هي ملكة الفترة الصباحية بينما يكون الناس منشغلين في المطبخ أو يستعدون للخروج لأعمالهم أو يقودون سياراتهم. وعبثا تحاول التلفزيونات ملء الفترة الصباحية ببرامج الثرثرة عن الأكل والوزن والرشاقة الخ. مجرد ملء للفراغ بالفراغ.