لم يستطع فؤاد
النوم طيلة الليل، أنّى له القدرة على غلق عينيه وقلبه يكاد يشتعل شوقا لرؤية انبلاج
فجر جديد في حياته المديدة، مشاعره كلّها في حالة نفير عام
لرؤية هذا المشهد العظيم. صبيحة هذا اليوم سينعتق من ظلمات
السجون التي قضى فيها
خمس عشر سنة كما يصفها على "داير مليم"، أو مثل كتاب مملّ مقيت قُضي
عليه أن يقرأه من الجلدة الى الجلدة. في هذه الليلة كان مشغولا مهموما مفزوعا
مكروبا، فرحا مسرورا، ضاحكا تارة وباكيا تارة أخرى وهو يطوي آخر صفحة، ثم قلب جلدة
الكتاب الخلفية، اليوم هو يوم الحرية يوم الانعتاق يوم الخلاص يوم التحرير، كلّ
خلية من خلايا روحه وجسده وعقله تريد أن تنعتق وتتحرّر، تطرق جدران القلب بكلّ ما
أوتيت من قوّة، اليوم يوم انبلاج نهار جديد من ليل طويل طويل مكث جاثما على صدره
خمس عشرة سنة.
قضى الليلة وهو
تارة ينظر إلى الخلف، يغرف من ذكرياته، من عمق ظلمات هذا الخلف الذي أصبح أو يكاد
يصبح في عداد الماضي الأليم، وتارة ينظر إلى الأمام الجميل حيث رؤية السماء دون
شبك يقطّعه إربا صغيرة، حيث عناق ولده الوحيد دون زجاج فاصل شامت صلد أبكم مهمّته
امتصاص المشاعر الملتهبة وقتلها، اليوم سيشتمّ رائحة أمّه وأبيه، سيرى الصورة بكل
أبعادها الثلاثية والرباعية وبكل روائحها وأصواتها وحسيس روحها الجميلة، سيرى
الجبال الشامخة. قد يرى في طريقه راعيا يسوق قطيعا من الخراف والماعز، قد يرى
حمارا.. مشتاق لرؤية ما حُرم من رؤيته حتى هذا
الحمار يشتاق لرؤيته، سيأتيه أصدقاؤه القدامى وسيعرف أخبارهم ويتفقد أحوالهم. بقيت
ساعة أو بضع ساعة تفصله عن هذا العالم الجميل.
ويغرف من خلفه ما
يثير غضبه كلّما حوّم النوم أو اقترب قليلا فيسارع هاربا بعيدا بعيدا، هكذا بكلّ
بساطة حرموه من أحبابه في السجن، قرّروا عزله آخر شهر من هذه الحبسة الطويلة،
جاؤوا به من "سجن مجدو" إلى عزل الرملة، هذه الزنازين الضيّقة المقرفة،
وحيدا سوى جرذان تتسلّل لتسرق طعامه، وصراصير حمراء وسوداء قد خلعت رداء الخوف
والحياء وصارت تمشي متبخترة واثقة بأنها صاحبة المكان والزمان في هذه الزنازين
القاحلة.. "عليك أن لا تعبأ بها وتتركها وشأنها لأنك لست أمام عدد ان قتلته
وهزمته في معركة حاسمة قد انتهى الامر، ستاتيك أضعاف ما قتلت، لا تتعب نفسك بها
ودعها تسرح وتمرح في ملعبها راضية مرضيّة".
"ساعة أو بضعها
على عناق الأحبّة، لفظت الحبسة كلّ أنفاسها أو كادت، بينك وبين الاحتفالات التي
ستقام استقبالا لك، سيقوم مخيمك المحب لك مخيم الجلزون ولا يقعد، سيأتيك الناس
فرادى وزرافات، ستعرف جيلك ومن سبقه ثم ستتعرّف على من ولد وترعرع وأنت في السجن،
وسّع من دائرة ذاكرتك لتدخل أعدادا كثيرة فيها دفعة واحدة، ولن يكون ذلك على حساب
من تركتهم خلفك".
"سبق وأن
كنت يا فؤاد على بعد أمتار بينك وبين الحريّة، يوم كان النفق الذي حُفر في ثلاثة
شهور عبر رحلة قاسية من المشقة بكلّ أبعادها القاسية، في سجن "كفار يونا"
يوم كنت في منتصف الطريق لحبستك الطويلة، تمطّى النفق من تحت زنازينهم وجدرانهم
الامنيّة العاتية، قال لنا: هيت لكم، زحف اثنان وعانقوا الحريّة، بينما بقي اثنان
حيث باغتهم العدد الصباحي، كنت أحد الاثنين الذين بقوا، وسقط في أيدينا وأيدي
السجّان في آن واحد، بعد عقوبة طويلة من العزل خرجنا كما تخرج الشعرة من عجينهم
الأسود، فهل رميي في هذه الزنزانة الحقيرة شهرا كاملا معزولا هو إكمال لتلك
العقوبة، لعنة الله عليهم ما أشدّ قسوة قلوبهم وما أحلك ليلها؟".
"هل سيرزقني
الله طفلا لأشهد الطفولة من جديد؟ هل أكون أبا ولديّ طفل بعد أن هربت طفولة ابني
الأول من بين يديّ وأنا في منافي السجون؟ ما أجمل أن تبدأ من جديد، أن تقفز عن خمس
عشر سنة من حياتك، أيّ قفزة هذه؟ هل أستطيعها؟ كيف تخرج منّي هذه السنوات الجرداء
وكيف أخرج منها؟".
"تذكر يوم
اعتقلت نسيت كم يوما قد مضى من شهر العسل، نصفه أو ربعه أو ثلثه، لا أدري فالأيام
الجميلة تمرّ مرّ السحاب، أيام السجن هي طويلة جدا، كنت بداية حبستي أحسب اليوم
وكأنه ستة شهور قد انسلخت من عمري. في الشهر التاسع لحبستي جاءني خبر ميلاد زوجتي
وبزوغ فجر جديد في حياتي، أن أصبح لي قلبا نابضا صغيرا خارج السجن، كدت أطير من
الفرح، وأصابتني بعد ذلك كآبة استقرّت في أعماقي طيلة الحبسة، إذ كيف سيكون شكل
حياة هذا الولد دون أب؟ لن تغني عليه شفقة الناس ورعاية الأهل عن هذا الغياب شيئا،
تخيّلت حياته كحبستي، ليل لا ضياء فيه".
"تذكرت
عذابات فترة التحقيق القاسية، مارسوا معي فيها كلّ أساليبهم القذرة وكلّ ألاعيبهم
الماكرة، وكان التحقيق معي على خلفية عملية عسكرية. حاولنا خطف جندي لتحرير أسرى،
أصبناه بعدة رصاصات قاتلة ولكنّه لم يمت، أفلت من بين أيدينا ونحن لم نفلت من
أيديهم. كانت في حينها انعطافة حادّة في انتفاضة الحجارة إذ اعتبروها تحوّلا من
استخدام الحجارة الى استخدام السلاح، تفنّنوا كثيرا في تعذيبي حتى أصبحت كخرقة
تذروها الرياح، نخّلوا جلدنا وعظمنا ومضت ثلاثة شهور في أقبية التحقيق حيث صرنا
كأعجاز نخل خاوية".
وتسارع شريط
الحبسة كمن يلاحق الزمن قبل النداء على اسمه، متى يطلّ هذا الاسم ويُنادى به في
هذا القاع السحيق من عالمهم الأسود؟ تهتزّ أذناه ويرتعش قلبه عند كلّ صوت، قرقعة
المفاتيح تزلزل أعماقه، نادى مناديهم: عدد، عدد، انخلع لها قلبه ووقفت كلّ خلايا
روحه عندمها هتف بداخله هاتف:" هذا آخر عدد يا فؤاد. 365 ضرب 15 ضرب 3.. على
الأقلّ 17 ألف مرّة: وأنت تقف مهانا أمام هواة إهانة البشر، هذا العدد هو آخر
العهد بهذه العادة المقيتة الذميمة الحقيرة، وكأنهم يقولون لك: أنت مجرد رقم لا
كرامة ولا مشاعر ولا وزن ولا قضية ولا وطن ولا هويّة ولا أمّ لك.
وصل الزبانية
السابعة صباحا مع جوقة موسيقية تترنّم بهذه الكلمة الذميمة، وقف بطريقة آلية كروبوت
الكتروني، هزّوا رؤوسهم إشارة منهم تنبئ بأنه هذا الأسير المفرج عنه اليوم، قال
ضابطهم: "خلّيك جاهز".
فتح حقيبة سفره،
حمل ما قلّ ودلّ، ألبوم صوره الشاهد على ذكرياته مع أعزّ صحبة وجدها في حبسته، بعض
الكتب العزيزة على قلبه والتي كانت له الصديق العزيز في سفره، بعض الرسومات
الجميلة المهداة له من أصدقاء يجيدون الرسم، أغلق حقيبة سفره الجميل، تنفّس
الصعداء وشرع في عدّ أنفاسه الأخيرة، واحد اثنين ثلاثة أربعة.. اللهم فرجك وسترك،
أخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك وليّا ونصيرا.
سمع جلَبة آخر
الممر المعتم الذي يصل إلى زنزانته، السجن نائم سواه وسوى من يمكر به، وصل ضابط مشؤوم
من ضباطهم ذوي البشرة المنمنمة والمرقّطة، تنطّع في كلامه وكأنّه ينذر بكارثة
قادمة، طقطقت أسنانه المتفرّقة باسمه الرباعي وكأنه يدقّ مسامير في جدار السجن،
نعق:
- مبروك، إنت من
اليوم معتقل إداري لستة شهور.
- معقول، جدّ ابتحكي؟
- أنا عمري مزحت
معك؟
"أطلق هذه القذيفة وقفل راجعا وكأنه
يعزف لحنا جميلا أن ضرب عمق هذا الانسان الذي لا يراه إنسانا أصلا".
اصفرّ وجه فؤاد، توقّف قلبه عن النبض
قليلا، هُزم جيش معنويّاته إلا القليل الذي تمسّك بالجبل، أفاق من غيبوبته
السريعة، دفع الصخرة التي جثمت على صدره، حوقل واسترجع وحسبل وتوجّهت ركائب قلبه
بدعاء خرج من أعماق أعماقه، شعر بشيء من السكينة تحاول السيطرة على الموقف، تحرّك
بطريقة آلية في غاية البطء وهو يشعر بثقل ستة شهور قادمة ستكون أقسى من السنوات
الخمس عشرة، هذا إذا لم تجدّد بأخرى.
فتح الحقيبة وأخذ يعيد ترتيب أشيائه في
أماكنها السابقة، حمل منشفته ودخل الحمام، فتح الدوش البارد ليبرّد لهيب مشاعره
الصاخب. بعد هذا الحمام أخذ يستعيد رباطة جأشه، سافر بروحه إلى أهله ومن ينتظر الإفراج
عنه وجماهير مخيمه الحبيب. سيرتفع منسوب النقمة على هذا المحتلّ عندما يسمعون بخبر
هذا التجديد اللئيم، ربّ ضارة نافعة وليعلم الناس طبيعة هذا المحتلّ.
واستمرّت المشاعر الإيجابية في معركة ضروس
تواجه ما أحدثوه في صدره من كوارث، شعر بتعب شديد مع أذان الظهر، صلّى محاولا
السيطرة الكاملة وتهيئة النفس لهذا الابتلاء الجديد، بعد الصلاة هدّه تعب ذكريات
الليل الصاخبة ومعركة الصباح القاتلة، نام نومة عميقة نقلته أحلامه خارج السجن
رغما عن أنوفهم، أفاق على صوت مناد مع أذان العصر، اسمه الرباعي نعم هو ذات الاسم
الذي نودي به صباحا، فرك عينيه، أطلّ وجه آخر غير وجه الصباح المشئوم.
- على السريع، إفراج.
- بلغتوني بستة
شهور إداري صباحا؟
- كنا نمزح معك، هيّا الآن عن جدّ إفراج. ها
هي ورقة الإفراج جاهزة. خذها كي تستطيع المرور على الحواجز.