ظلت
الانتخابات، بوصفها وسيلة فُضلى من وسائل التعبير
عن الإرادة العامة الحرة والمستقلة، مرتبطة بالديمقراطية، بحسبها منهجا وقيمة. وقد
استمر الاقتناع ثابتا بكون الانتخابات المتوفرة على معايير الشفافية والحياد والتكافؤ
والاستقلالية؛ تُفضي بالضرورة إلى بناء مؤسسات تمثيلية ديمقراطية، تسمح لأصحابها بالمشاركة
الفعلية والفعالة في التعاطي مع الشأن العام، وصياغة سياساته، وتدبيرها بقدر يسير
من الاقتدار والنجاعة والإنجاز. ولأن الانتخابات وسيلة ليس إلا، فقد طرحت طبيعة
علاقتها الفلسفية والسياسية بالديمقراطية أكثر من سؤال، وفتحت الباب واسعا على أكثر
من اجتهاد ورأي لفهم جوهر هذه العلاقة وحدودها.
من الاجتهادات التي سعت إلى فهم العلاقة بين
الانتخابات والديمقراطية أن مُتغير "الثقافة"، وتحديدا "الثقافة
السياسية" (Culture politique)، بالغ الأهمية في إبراز حدود الاتصال والانفصال بين الانتخابات
والديمقراطية. فليست كل عملية انتخابية، وإن توفرت لها المعايير المبينة أعلاه،
قابلة حتما على توليد حالة ديمقراطية مستقرة، أي تُفرز مؤسسات تمثيلية ديمقراطية.
"الانتخاب"، بوصفه تعبيرا عن الإرادة في لحظة سياسية معينة، يظل محكوما بحمولات هذه الثقافة، إذ الثقافة السياسية هي التي تجعل من صاحبها مستوعبا واجبه في لحظة الاقتراع، أي التصويت، وقادرا أو غير قادر على الدفاع عن المعايير التي تجعل تصويته معبرا حقا عن إرادته الحرة والمستقلة
وحيث أن
الثقافة السياسية، كما هو متوافق على
تعريفها، تنطوي على مصفوفة من القيم والقواعد، والمعارف، والمعتقدات، المفسرة لسلوكيات الأفراد ومواقفهم السياسية داخل مجموعة، أي الجماعة البشرية التي ينتمون إليها، فإن
"الانتخاب"، بوصفه تعبيرا عن الإرادة في لحظة سياسية معينة، يظل محكوما بحمولات
هذه الثقافة، إذ الثقافة السياسية هي التي تجعل من صاحبها مستوعبا واجبه في لحظة
الاقتراع، أي التصويت، وقادرا أو غير قادر على الدفاع عن المعايير التي تجعل تصويته
معبرا حقا عن إرادته الحرة والمستقلة.
ثم إن حمولات الثقافة السياسية هي التي توجه
سلوكه نحو اختيار من هو أهل وأحق بالتصويت لصالحه، والأهم من ذلك تجنبه السقوط في
إغراءات المال الفاسد الذي يُفسد اختيار من ينوب عنه حقا في تدبير أموره العامة في
المؤسسات التمثيلية..
علاوة على ذلك، تساعد الثقافة السياسية
الديمقراطية، إن توفرت، على جعل أصحابها، أي المواطنين، يقظين ومتواصلين مع من
انتخبوهم، وفوضوا سيادتهم لهم، عبر إبداء النصيحة، وتقديم الاقتراحات، وتوجيه
النقد والاعتراض، وحتى المطالبة بنزع المشروعية عنهم إن اقتضى الأمر ذلك. أما إذا كانت
الثقافة السياسية واطئة، وغير مؤسسة على منسوب عال من الديمقراطية، فإن أصحابها لن
يقدروا على ممارسة حقهم في الانتخاب بما يساعد على بناء الديمقراطية. ولهذا يميز علماء
الاجتماع بين نمطين من الثقافة: ثقافة المشاركة وثقافة الخضوع والإخضاع، ولعل هذه
الأخيرة هي التي تجعل العلاقة بين الانتخابات والديمقراطية معطلة وغير منتجة للمفعول
الإيجابي المطلوب منها، أي المساهمة في توطين قيمة الديمقراطية في الدولة (المؤسسات)
والمجتمع.
الثابت أن السمة التي ميزت العمليات الانتخابية في البلدان العربية أنها في مجملها "انتخابات من دون ديمقراطية" (Elections without democracy)، ولأنها انتخابات افتقرت إلى وعاء ثقافي ديمقراطي، فقد استمرت انتخابات مجردة من قوة فعلها في ترسيخ الديمقراطية وتوطينها في مؤسسات الدولة والأنسجة العامة للمجتمعات
إذا حاولنا قراءة ما ورد أعلاه من زاوية ما جرى
من انتخابات في المنطقة العربية، وهي بعشرات التجارب، فإن "براديغم" (paradigme) الثقافة السياسية، يساعد بشكل
واضح على الإجابة عن سؤال الديمقراطية في علاقة بآلية الانتخاب، إذ الثابت أن السمة
التي ميزت العمليات الانتخابية في البلدان العربية أنها في مجملها "انتخابات من
دون ديمقراطية" (Elections without democracy)، ولأنها انتخابات افتقرت إلى
وعاء ثقافي ديمقراطي، فقد استمرت انتخابات مجردة من قوة فعلها في ترسيخ الديمقراطية
وتوطينها في مؤسسات الدولة والأنسجة العامة للمجتمعات.
لتأكيد فكرة ضعف الوعاء الثقافي الديمقراطي
الناظم للانتخابات في المنطقة العربية، نُشير إلى أن "موجة الدّمقرطة الثالثة"
التي نقلت أكثر من أربعين دولة في العالم من وضع غير ديمقراطي إلى وضع ديمقراطي،
ما بين ثورة القرنفل في البرتغال عام 1975 وحتى ما بعد سقوط جدار برلين (1989)
وانهيار المعسكر الشرقي، لا نعثر على أي بلد عربي داخل قائمة هذه الكوكبة. بل أكثر،
أن العرب الذين ودعوا -مع الأسف- القرن التاسع عشر بسؤال الإصلاح مع "محمد
عبده" ومن معه من دعاة الإصلاح؛ القرن العشرين بالسؤال ذاته، وحتى حين عادت اليقظة
إلى وعيهم، وطال الحراك الاجتماعي معظم بلدانهم، لم تستمر يقظتهم طويلا، بل سرعان
ما تحول ما سمي ربيعا إلى خريف حزين.
لا يحتاج سؤال الديمقراطية المعطلة في المنطقة العربية إلى تعداد الأدلة على وجوده وديمومته، لننظر إلى مراتب البلاد العربية في سلالم الديمقراطية، والشفافية، وحكم القانون، والتعليم، واحترام الحريات الأساسية، والإعلام، وتكافؤ الفرص والمساواة، ونحكم بعدها على حال أحوالنا
لذلك، لبناء ثقافة سياسية ديمقراطية، قادرة على توليد
قيمة الديمقراطية في الفضاء العربي العام، تحتاج المنطقة العربية إلى إصلاح عقلها
السياسي، برد الاعتبار إلى ملكاته، ونزع طابع الكسل والتحجر في قدراته، وتحرير الإنسان
العربي مما ضغط عليه تاريخيا، ويضغط عليه في الحاضر، كي يستطيع بناء مستقبله
بإرادة وكفاءة جديدتين.. وعدا ذلك سيظل العطل مستبدا بالعقول، ومُجْهِزا على قدرات
الإنسان العربي في العطاء، والإبداع، والمساهمة في العطاء الإنساني العام.
لا يحتاج سؤال الديمقراطية المعطلة في المنطقة العربية
إلى تعداد الأدلة على وجوده وديمومته، لننظر إلى مراتب البلاد العربية في سلالم الديمقراطية،
والشفافية، وحكم القانون، والتعليم، واحترام الحريات الأساسية، والإعلام، وتكافؤ
الفرص والمساواة، ونحكم بعدها على حال أحوالنا.. صحيح أن لغة التعميم في النظر إلى
سؤال الديمقراطية في المنطقة العربية لا تنفع، ولا تقربنا من الموضوعية، لأن ثمة
مستويات في الاختلاف، وسياقات متباينة في التطور والتراكم وبناء التجارب، كما أن
هناك معطيات في التاريخ والجغرافيا ليست على قدر واحد من التجانس والتماثل.
والموضوعية تقتضي تجنب الحديث بالتعميم والإجماع،
ومع ذلك هناك مشتركات كثيرة، تجتمع فيها البلاد العربية في سؤال لماذا ظلت الانتخابات
في البلاد العربية من دون ديمقراطية؟ وكيف لها أن تتحول إلى رافعة لبناء
الديمقراطية وترسيخها وتوطينها في الثقافة السياسية العربية؟