قضايا وآراء

"العِلم يُؤتَى ولا يأتي".. الاستخدام البائس للمقولة وآثارُه

هل يبقى العلم في المسجد فقط؟- الأناضول
من النّكسات التي أصابت العمل للإسلام عند كثيرٍ من العلماء والدّعاة؛ الانعزال عن ‏النّاس والتقوقع على الذّات داخل المسجد تحت عنوان وجوب تقدير العلم والرّفع من ‏شأنه، لأنّ "العلم يؤتى ولا يأتي"‏.

أصل العبارة وسياقها

وهذه العبارة التي تعودُ إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه انتزعت من سياقها، ‏وصار التّعامل معها بنقيض ما جاءت به من سياق ومناسبة.‏

فقد رُوي عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: "دخلتُ على هارون الرشيد؛ فقال لي: ‏يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا، حتى يسمع صبيانُنا منك الموطأ، قال: أعزّ الله ‏أمير المؤمنين، إنّ العلم منكم خرج، فإن أعززتموه عزّ، وإن ذللتموه ذلّ، والعلمُ يؤتى ولا ‏يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس"‏.
من خفّ مرضهم فهم الذين يذهبون إلى ‏الطّبيب في عيادته وهؤلاء هم الذين يقصدون الدّعاة في المساجد.‏ أمّا من اشتدّ مرضهم فعلى الطبيب أن يهرع إليهم، وهؤلاء هم الذين عصفت بهم ‏الشّبهات والأمراض التي حالت بينهم وبين المساجد فوجب على الدّعاة أن ينطلقوا ‏إليهم

وفي هذه الحادثة التي ساقها ابن كثير في البداية والنّهاية ما يدلّ على اختلاف السّياق ‏الذي قيلت فيه عن السّياق الذي تستخدم فيه في أيامنا هذه.‏

فقد قالها الإمام مالك معترضا على طلب الخليفة أن يأتي إلى قصره ليعلّم أبناءه في ‏درس خاص، فرأى الإمام بأنّ هذا مشهد من مشاهد إهانة العلم لا ينبغي القبول به ‏وتمريره.‏

بل في السّياق ما يدلّ على أنّ العلم يأتي إلى النّاس، حيث أصرّ الإمام مالك أن يكون ‏العلم في المسجد في ذلك الزّمان الذي كان المسجد فيه قبلة النّاس وموطن استراحتهم.‏

والعلم والدّعوة إلى الله تعالى علاجٌ لأمراض النّاس الإيمانيّة والفكريّة والسلوكيّة، ‏ويفترض بالدّاعية أن يكون هو الطبيب المداوي.‏

وقد عرّج على ذلك الأستاذ مصطفى السّباعي رحمه الله تعالى، حيث كان يبيّن في بعض ‏محاضراته أنّ النّاس مرضى والنّاس أطباؤهم، فمن خفّ مرضهم فهم الذين يذهبون إلى ‏الطّبيب في عيادته وهؤلاء هم الذين يقصدون الدّعاة في المساجد.‏

أمّا من اشتدّ مرضهم فعلى الطبيب أن يهرع إليهم، وهؤلاء هم الذين عصفت بهم ‏الشّبهات والأمراض التي حالت بينهم وبين المساجد فوجب على الدّعاة أن ينطلقوا ‏إليهم.‏

كلامٌ نفيس للبشير الإبراهيمي في الاستخدام البائس للعبارة

وقد بيّن العلّامة البشير الإبراهيمي في كلامٍ نفيسٍ أثر هذا التقوقع والانعزال عن النّاس -استنادا إلى هذه القاعدة- على تفشّي أمراض الفكر والعقيدة حيث يقول:‏

‏"إنّ علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادةٌ من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم ‏إلى آداب خصوصية، منها أنّهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التّاجر متجره، ‏وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلّموهم، فإذا لم يأتهم أحد تسخّطوا على الزّمان وعلى ‏النّاس، ويتوكّؤون في ذلك على كلمة إن صدقت في زمانٍ فإنّها لا تصدق في كلّ زمان ‏وهي: "إنّ العلم يؤتى ولا يأتي".. ‏
تصدق هذه الكلمة في علمٍ غير علم الدّين، وإنّما تصدق بالنّسبة إليه في جيلٍ ‏عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما قبله بقرون فإن التّعليم والإرشاد ‏والتذكير أصبح بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، ‏وإنّما يكون في الميادين

وإنّما تصدق هذه الكلمة في علمٍ غير علم الدّين، وإنّما تصدق بالنّسبة إليه في جيلٍ ‏عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما قبله بقرون فإن التّعليم والإرشاد ‏والتذكير أصبح بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، ‏وإنّما يكون في الميادين حيث يلتقي العدوّ بالعدوّ كفاحا.‏

وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه: ‏إنّ هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إنّ هذا قياس مع الفارق في الزمان ‏والعالم والمتعلم.‏

أمّا زمانك هذا؛ فإنّ هذه الخلّة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى ‏الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك.‏

فالشّبهات التي ترِدُ على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون ‏والأحبار أقربَ إليهم منكم، وأكثر اختلاطا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم ‏أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح.‏

ففي هذا الزمن يجب عليّ وعليك وعلى أفراد هذا الصّنف أن نتَجَنَّد لدفع العوادي ‏عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا ‏براجعين.‏

وإذا كان المرابطون في الثّغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود العدوّة المغيرة على الأوطان ‏الإسلامية؛ فإنّ وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدّ المعاني العدوّة المغيرة ‏على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من الجنود، لأنها خفيّة المَسَارِب، غرّارة ‏الظّواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي في صورة الضّيف فلا تلبث أن تطرد ربّ ‏الدار.

لقد قال العلّامة الإبراهيمي رحمه الله في هذا الكلام قبل عشرات السّنوات؛ لكنّه ‏يصدق على واقعنا اليوم بصورة ربّما تفوق صدقه على الواقع الذي قيل فيه؛ فإنّ المعركة ‏شرسة والجنود عاكفون في ثكناتهم لأنّ "العلم يؤتى ولا يأتي".

تذكير المُذكِّرين

والغريب أنّ الدّعاة والعلماء المنزوين في المساجد لا يكفّون عن تذكيرِنا بأنّ الإمام البنّا ‏كان داعية في المقاهي لا المساجد، وأنّه كان يجوب المدن والبلدات يعيش مع النّاس كلّ ‏النّاس.

مراجعات حقيقيّة من مؤسسات العلماء وأفرادهم لمدى انخراط العلماء ‏والدّعاة في صفوف الشّباب، وحقيقة الوصول إليهم في الواقع والعالم الافتراضي على ‏حدٍ سواء ووضع الخطط والبرامج الحقيقيّة لتحقيق الوصول الفعّال والتّواصل المؤثّر

ولا يكفّون في دروسهم المسجديّة عن استحضار صورة المحدّث الأكبر بدر الدّين ‏الحسني في دمشق وهو يقصد مع بداية رمضان دور الدّعارة ليكلّم البغايا؛ مذكّرا إيّاهنّ ‏بالله تعالى بكلّ تلطّفٍ ومقدّما لهنّ ما يكفيهنّ من المال في شهر رمضان لينصرفن عما ‏هن فيه.‏

وكذلك لا تكاد تجدُ أحدا منهم إلّا ويحدّثك عن قصّة ذلك العالم الدّاعية الذي قصد ‏الملهى اللّيلي وصعد المسرح ليخاطبَ جمهورا لا يأتيه إلى المسجد، والتي صاغها الشّيخ ‏علي الطّنطاوي رحمه الله تعالى في مقالةٍ بديعة تحت عنوان "شيخٌ في المرقص".‏

إنّ الشباب اليوم بعد الأزمات التي عصفت بهم وتفرّقوا في بلاد شتّى يحتاجون إلى ‏علماء ودعاة يصلون إليهم، ويعيشون معهم سواءً في الواقع الحقيقي أو الواقع ‏الافتراضي.‏

وهذا يحتاج إلى مراجعات حقيقيّة من مؤسسات العلماء وأفرادهم لمدى انخراط العلماء ‏والدّعاة في صفوف الشّباب، وحقيقة الوصول إليهم في الواقع والعالم الافتراضي على ‏حدٍ سواء ووضع الخطط والبرامج الحقيقيّة لتحقيق الوصول الفعّال والتّواصل المؤثّر.‏

twitter.com/muhammadkhm