بعدَ أن طُعن أمير المؤمنين عمر في المحراب في صلاة الفجر من يوم الرّابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من السّنة الثّالثة والعشرين للهجرة احتمله النّاس إلى بيته وجراحه تتدفّق دمًا.
همّ الخليفة أن يعرف قاتله
كان من أوائل ما طلبه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن يعرف من قتله، فسأل ابن عبّاس رضي الله عنه انظر لي من طعن أمير المؤمنين، فقال ابن عبّاس رضي الله عنه: هو غلام المغيرة بن شعبة، فقال أمير المؤمنين: الصّانع؟ قال: نعم، فقال: "قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفًا، الحمدلله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجلٍ يدّعي الإسلام، والحمدلله الذي لم يجعل قاتلي يُحاجُّني عند الله بسجدةٍ واحدةٍ سجدها لله".
ثمّ نظر عمر إلى ابن عبّاس وقال له: "قد كنتَ وأبوك العبّاس تحبّان أن تكثر العلوج من الرّوم والفرس في المدينة".
فقال ابن عبّاس: "إن شئتَ قتلناهم جميعًا الآن"، فردّ عمر مستنكرًا: "تقتلونهم الآن بعد أن تكلّموا بلسانكم، وصلّوا صلاتكم، وحجّوا حجّكم؟".
في هذا الحوار الذي دار بين ابن عبّاس وعمر رضي الله عنهم وهو ما يزال ينظر إلى جراحه تتدفّق دمًا تتجلّى روح الإيمان الرّاسخ وروح المسؤوليّة العالية معًا؛ فأمير المؤمنين كان همّه أن يعرف من طعنه خشية أن يكون مظلومًا حرّكته مظلوميّته، أو أحدًا من المسلمين فيتسبّب فعله بفتنةٍ بين المسلمين، وكذلك تتجلّى روح المسؤوليّة العالية في ضبط المشهد من أيّة تصرفات ثأريّة تجاه عموم الفرس والرّوم الذين سكنوا المدينة وقد عبّر ابن عبّاس في حالة ردّة فعل عاطفيّة عن استعداده لقتل هؤلاء ثأرًا لأمير المؤمنين فاستنكر عليه عمر رضي الله عنه في مشهد ينبغي أن يكون عليه أصحاب المسؤوليّات وهو ضبط الجماهير من الانسياق وراء الرغبات الثّأرية وأن على أصحاب المسؤوليّة فعل ذلك وهم في أحرج ساعاتهم ولو كانت جراحهم تتدفّق ودماؤهم تسيل فينبغي أن يكون همّهم ضبط ردّات الفعل الانفعاليّة والحفاظ على تماسك المجتمع.
مصير المتآمرين على قتل عمر رضي الله عنه
أمّا أبو لؤلؤة فقد قتل نفسه بعد أن ارتكب مجزرته البشعة، وبقي الهرمزان وجُفينة وقد كانا شريكَين في المؤامرة، فبعد أن طُعن أمير المؤمنين عمر هاج ابنه عبيدالله بن عمر وماج ولقي عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ فحدّثه عمّا رأى من اجتماع الثلاثة وكيف خافوا حين رأوه وسقط من أبي لؤلؤة الخنجر الذي قتل به أمير المؤمنين، فتوجّه عبيد الله تحت وطأة الغضب الثّأري إلى الهرمزان وقتله، وانطلق يبحث عن جفينة حتى لقيه فقتله هو الآخر، ثم انطلق شاهرًا سيفه إلى بيت أبي لؤلؤة المجوسي فخرجت ابنة صغيرة له فقتلها، وكان الخبر قد وصل إلى عموم المسلمين عمّا يفعله عبيد الله بن عمر فاجتمعوا عليه وأخذوا السيف منه وسيطروا عليه.
دار نقاش طويل خلال السّاعات الأخيرة من حياة عمر رضي الله عنه حول الاستخلاف، فلمَّا طُلِبَ من الفاروق أن يستخلف، وهو على فراش الموت؛ قرَّر بعد تفكيرٍ طويل أن يسلك مسلكًا جديدًا يعتمد على جعل الشُّورى في عددٍ محصورٍ، فقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم بدريُّون، ومن العشرة المبشرين للجنّة،
دخل المسلمون في نقاش حول التصرّف الذي يجب أن يكون مع عبيد الله بن عمر؛ فاتفقوا جميعًا ابتداءً على حرمة ورفض ما فعله لأنّه تعدٍّ على اختصاص الحاكم ومن يقوم مقامه فليس له أن يمارس العقوبة بحقّ الهرمزان وجفينة بنفسه ولو كانا مجرمين، وكذلك اتفقوا على أنّ قتله للطفلة جريمة منكرة بشعة لا يسوغها الغضب الثّأري مطلقًا، ثمّ اختلفوا بعد ذلك هل يُقتَل عبيد الله بن عمر قصاصًا أم لا، فوصلوا بعد نقاش مستفيض إلى أن يقوموا بحبسه إلى أن يشفى عمر أو يستلم خليفة آخر مكانه إن فارق الحياة وهو من يحكم به، وفعلًا أودع عبيد الله بن عمر السّجن إلى عهد عثمان رضي الله عنه.
في هذا المشهد تتجلّى صورة المجتمع الإسلاميّ الحيّ الذي بني بناءً تربويًّا راسخًا، فهو يرفض أيّة جريمة أيًّا كان مرتكبها ولو كان الحاكم، ولا يقبل الجريمة تحت أيّ مسوّغ من المسوغات، فالمجتمع الذي تسري في أوصاله روح الإسلام يكون قادرًا على نبذ الخطأ والجريمة وتحمّل مسؤوليّاته في مساءلة المخطئين والمجرمين مهما كانت مواقعهم وصفاتهم.
طلبٌ عمريّ من عائشة رضي الله عنهما
نادى عمر ابنه عبدالله وقال له: اذهب إلى عائشة وقل لها: يقرأ عمر عليك السّلام، ولا تقل أمير المؤمنين فلست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل لها: يستأذن منك عمر أن يُدفَنَ مع صاحبَيه، رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكرٍ رضي الله عنه.
فذهب عبدالله واستأذن على عائشة وحين دخل عليها وجدها تبكي على عمر رضي الله عنهم.
فقال لها: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن منك أن يدفنَ مع صاحبيه!
فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنّ به اليوم على نفسي، أذنتُ له، فلما أقبل عبد الله بن عمر راجعًا؛ قال عمر: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله ما كان من شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني حتّى تقف على باب عائشة ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين، فإنّي أخشى أن تكون قد أذنت لي الآن استحياءً لأنّي أمير المؤمنين وما زلت حيًّا.
الاستخلاف
دار نقاش طويل خلال السّاعات الأخيرة من حياة عمر رضي الله عنه حول الاستخلاف، فلمَّا طُلِبَ من الفاروق أن يستخلف، وهو على فراش الموت؛ قرَّر بعد تفكيرٍ طويل أن يسلك مسلكًا جديدًا يعتمد على جعل الشُّورى في عددٍ محصورٍ، فقد حصر ستَّةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّهم بدريُّون، ومن العشرة المبشرين للجنّة، وهم: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعًا. واستثنى سعيد بن زيد، رغم أنّه من العشرة المبشَّرين بالجنَّة؛ لأنَّه من قبيلته بني عديٍّ أي من أبناء عمومة عمر رضي الله عنه.
وأمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم، ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر، يحضرهم مشيرًا فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلِّي بالنَّاس أثناء التَّشاور صهيب الرُّومي، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات ومعهم مجموعة من الجنود للحفاظ على سير الانتخابات بعيدًا عن أي تشويش خارجي، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحدٍ أن يدخل، أو يسمع ما يدور في مجلس الشّورى القائم.
الرّحيل إلى الدّار الآخرة
عاش أمير المؤمنين ثلاثة أيّام بعد طعنه، ولنترك عثمان رضي الله عنه يروي لنا آخر لحظةٍ في حياة أمير المؤمنين عمر إذ يقول: " أنا آخركم عهدًا بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر، فقال له: ضع خدِّي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إِلا سواء؟ قال: ضع خدِّي بالأرض لا أمَّ لك! ثمَّ شبَّك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمِّي إِن لم يغفر الله لي! حتَّى فاضت روحه".
اغتيالُ عمر.. ارتخاءٌ أمنيّ وصولاً إلى التّنفيذ في المحراب النبويّ
مقتل الظواهري.. وأربعة رؤساء أمريكيين