تغرق
تونس في مشاكل اقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة، تتفاقم يوما بعد يوم؛ حيث تفكك البنية الاجتماعية وسوء الأوضاع المعيشية، وحيث لم يعد ثمة حياد، بل اصطفاف قسّم المجتمع إلى طائفتين متنابذتين، في ظل
أزمات اقتصادية خانقة لم تحل بين الفريقين اللذين بدأا صراعا ساخنا داخل المرافق العمومية والخاصة وفي الشوارع والمقاهي، حتى داخل الأسرة الواحدة؛ مما أحدث شرخا اجتماعيا بالغ الخطورة، وهيأ المجتمع لصدام نتمنى ألا يحدث.
لكن لو استمر
قيس سعيد في تحشيد أنصاره من الباندية (البلطجية) ومن الشباب المخدوعين الذين تقل نسبتهم يوما بعد يوم؛ فسوف يؤدي ذلك بالضرورة إلى مصادمات تبدؤها عصاباته المدعومة من الداخلية، بمهاجمة التظاهرات والاعتداء على المتظاهرين، بما يشبه ما كان مع بلطجية مصر وشبيحة سوريا، وهو ما يؤذن بحرب أهلية أحد طرفيها مدعوم من الرئيس الذي سيوفر له -عن طريق الداخلية- الحماية والتشجيع بالشحن العاطفي الخادع، والوعود الكاذبة، وربما بالحوافز المادية، وهو ما يعني غرق البلاد في مستنقع من الفوضى لا قرار له، مما يؤدي إلى بلوغ أهداف الدول الداعمة للانقلاب، فما تبحث عنه أبو ظبي -على وجه الخصوص- هو الوصول إلى حالة من الخراب والاحتراب الأهلي الذي سيدمر البلد لتكتمل صورة الفشل المدَّعى للثورات العربية، التي تعد تونس آخر معاقلها، وكانت من قبل مضرب المثل.
تونس لا تنزلق نحو الدكتاتورية، كما ذكرت الواشنطن بوست، بل لقد غرقت في الدكتاتورية حتى مفرق شعرها، وهي في طريقها للموت اختناقا، إن لم يقم الجيش التونسي بعملية إنقاذ قبل أن يغلق الرئيس الباب في وجه الجميع، وينصب نفسه دكتاتورا شموليا وحاكما أوحد بأمر الله، لا يؤمن بديمقراطية ولا أحزاب ولا جمعيات ولا منظمات مجتمع مدني، بل يؤمن فقط بذاته الهشة المتهافتة التي لا تصلح إلا للقمع وهتك أستار الوطن، وممارسة الكذب والوعود الخلبية التي ستظل ديدنه طوال الوقت، حيث سيعجز عن توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة للمواطنين؛ مما سيعجّل في نشوب ثورة جديدة، إن لم يقم الجيش بعملية استباقية تقي تونس ويلات لم تكن في خاطر أحد، فيقوم بواجبه الوطني المنوط به، كونه القوة المادية الوحيدة القادرة على خلع الرئيس الدمية وتقديمه للمحاكمة.
وفي الأثناء، جاءت تسريبات نادية عكاشة لتقلب الطاولة على رأس المنقلب وتكشف عن تفاهة الاختيارات التي أدت إلى ما لم يكن متوقعا من فضائح القصر وركاكة الأداء السلطوي الباعث على السخرية. ويكفي هنا أن نقرأ ما قاله المستشار السابق للرئيس سعيد، عبد الرؤوف بالطبيب: "الوضع في مؤسسة الرئاسة خطير، وهذا ما دفعني للاستقالة في وقت سابق. تصرفت كرجل دولة ولم أقم بفضح تلك التجاوزات في حينها، لكن ما يحصل اليوم خطير للغاية"، وما قاله وزير الصحة السابق عبد اللطيف المكي؛ "إن تسريبات عكاشة هي نتيجة تعيين نكرات في مواقع قيادية في الدولة"، فيما خاطب ماهر المذيوب، مساعد رئيس البرلمان الرئيس سعيد بقوله: "عليك تقديم استقالتك في أقرب وقت ممكن، حفاظا على ما بقي من ماء وجهك، والأهم من أجل مستقبل تونس".
وهذا غيض من فيض، وليس كل ما جاء ردةَ فعل على هذه التسريبات الفاضحة التي باتت حديث التونسيين، والتي وضعت قيس سعيد في موقف لا يحسد عليه، فقد كان حديث عكاشة باعثا على السخرية والاستخفاف بسعيد وإجراءاته الهزيلة وتعييناته المزاجية غير القائمة على المصلحة الوطنية بقدر ما كانت قائمة على المزاجية والعلاقات الشخصية، ناهيك عن الجانب الشخصي الخاص الذي هدم صورة قيس سعيد في أعين كثير من التونسيين.
أما فكرة تأسيس الجمهورية الجديدة والتلميح بحل الأحزاب، بعد فضح الخطة التي كانت معدة يوم الأحد الماضي (8 أيار/ مايو) بالهجوم على مقرات الأحزاب ثم حلها، وخصوصا مقرات حزب حركة النهضة حيث أدى فضح الخطة إلى تأجيلها أو تجميدها، فقد وجد هذا التوجه رفضا شديدا، وخصوصا من العدو الحميم أو الصديق اللدود اتحاد الشغل، فقد رفض الاتحاد بشدة على لسان الأمين العام المساعد سامي الطاهري الذي أختصر مداخلته بما يأتي:
رفض خطاب الرئيس الأخير الذي وصفه بالصادم. ورفض فكرة تأسيس جمهورية جديدة، واعتبرها فكرة خطيرة. وأضاف بأن التأسيس يمحو السابق، وهو عبارة عن بتر واقتلاع من الجذور، مشددا على أن أيا كان لن ينجح في ذلك. وأضاف أن اتحاد الشغل لن يشارك في جريمة قتل الأحزاب.
إن اتحاد الشغل يعرف يقينا أن حل الأحزاب ما هو إلا خطوة أولى للانقضاض على المنظمات الأهلية والجمعيات، وأن الاتحاد سيكون ضمن هذه المنظمات التي ستفقد شرعيتها بحلول موعد الجمهورية الجديدة، التي يمضي فيها قيس سعيد بشكل مرحلي وصادم، ولذلك كانت لغة سامي الطاهري قوية على غير العادة.
ولم تتوان عبير موسي، رئيسة حزب الدستور، عن مهاجمة خطط سعيد وعزمه على تأسيس جمهورية جديدة، فقالت بأن حزبها سيتقدم بشكاوى ضد الأعضاء الذين سيقبلون تسميتهم في اللجنة الوطنية لتأسيس الجمهورية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد، معتبرة اللجنة غير قانونية، وبأن رئيس الجمهورية ليس من حقه مواصلة الحكم بناء على الفصل 80 بعد حل البرلمان.
وقد ظلت عبير موسي صامتة مترقبة لفترة طويلة، ولم يصدر عنها تصريح واحد ضد إجراءات سعيد إلا لماما وعلى حذر، مع طول لسانها وبجاحتها المعروفة، وذلك على أمل أن تعود إجراءاته عليها وعلى حزبها بالفائدة، لا سيما أن أداءها في البرلمان التونسي والفوضى التي أحدثتها هي وحزبها كانت أحد مبررات قيس سعيد لتجميد البرلمان ثم حله لاحقا. لكن حين أحست بأن الخطر اقترب منها، بدأت تظهر بمظهر المعارضة. وأتصور أنها في القابل من الأيام ستبدأ معركة شرسة ضد قيس سعيد، حتى لا تفقد دورها في المشهد القائم وحضورها فيه، وحرصا منها على بقاء حزبها موجودا، فهي لا تشكل أية قيمة بعيدا عن حزبها الذي يقدم لها الكثير من الدعم، كونها تشكل رأس حربة في معاداة حركة النهضة، فمنتسبو الحزب اجتمعوا على فكرة العودة للدولة القديمة، دولة المخابرات وتقييد الحريات، وفتح الباب لمؤيديها لممارسة كل أنواع الغش والانتفاع غير المشروع.
تونس اليوم تبحث عن منقذ، ويبدو أن قيس سعيد يسير نحو هدم الدولة، لا بناء دولة جديدة. فهو، فيما رأينا وسمعنا وتابعنا، أصغر من أن يكون قادرا على بناء جمهورية جديدة، وأصغر من أن يكون قادرا على حماية إجراءاته التعسفية، فالاعتماد على قوة الجيش والأمن لا يمكن أن يبقياه طويلا على سدة الحكم، فإن لم يكن الرئيس مؤيَّدا من شرائح الشعب المختلفة، ومن الطبقات السياسية، فوجوده مؤقت. هذا ما تعلمناه من التاريخ.. فهل يتعلم قيس سعيد من التاريخ؟ أم إن عناده وكبرياءه الزائف سيودي به إلى المهالك؟! فحين تثور الشعوب جراء الظلم والفقر والتهميش، فإن ثورتها هذه المرة ستكون مختلفة عن كل ما كان، والأيام بيننا!!