مشهد فجر 26 تموز/ يوليو 2021، حيث رئيس البرلمان
التونسي
الأستاذ راشد
الغنوشي يقف قبالة دبابة عسكرية تسدّ باب البرلمان، لم يكن مجرد لحظة
عابرة بل كان تأسيسا لموقف مبدئي دون توقع لنتائج وتداعيات، موقف من الانقلاب على
المسار الديمقراطي وعلى الشرعية وعلى المؤسسات الدستورية. لقد تناقلت القنوات
العالمية صورة ذاك الرجل المتقدم في السن وهو يخرج لتوه من الكوفيد، يبيت ليلة
كاملة قبالة البرلمان ويجري اتصالاته بقادة الأحزاب والمنظمات يدعوهم إلى إنقاذ
المسار الديمقراطي وعدم توهم خير من الانقلاب.
الغنوشي لا يقول بأن المسار كان ناجحا ولا ينكر فشلا في
مجال التنمية والاقتصاد، ولكنه يقول دائما إن
الديمقراطية تصلح نفسها بنفسها.
بدأت المواقف الرافضة للانقلاب ضعيفة ومترددة، ثم انقشعت
الغشاوة وانطفأت الحماسة وانكشف زيف وعود وشعارات الانقلاب، لقد انفض من حوله حتى
الذين ساندوه في بداياته ولم يبق معه إلا قليل.
وبقدر اتساع دائرة الرفض داخليا، كانت مواقف الإدانة
الخارجية تتزايد، وأصبح
قيس سعيد يواجه عزلة لم يشهدها من قبله إلا بعض الأنظمة
الديكتاتورية المعروفة والتي كانت نهاياتها مأساوية.
قيس سعيد ما زال يحاول الهروب إلى الأمام ولا يتردد في تبرير فشله بتآمر أعدائه على تجربته التي يراها رائدة، لقد تابع الناس حالة العزوف عن استتشارته الالكترونية التي دعا إليها؛ يريد من خلالها فرض أمر واقع ليقول بأن الشعب معه وأن رؤيته السياسية هي محل قبول شعبي واسع
قيس سعيد ما زال يحاول الهروب إلى الأمام ولا يتردد في
تبرير فشله بتآمر أعدائه على تجربته التي يراها رائدة، لقد تابع الناس حالة العزوف
عن استتشارته الالكترونية التي دعا إليها؛ يريد من خلالها فرض أمر واقع ليقول بأن
الشعب معه وأن رؤيته السياسية هي محل قبول شعبي واسع. تابعه التونسيون في أحد
لقاءاته برئيسة حكومته يتلو عليها نتائج الاستشارة، وهي في بداياتها يقول إن 82 في
المائة من التونسيين هم مع نظام رئاسي وإن 89 في المائة هم مع سحب الوكالة من
النواب البرلمانيين، وهي بالتأكيد أرقام متخيلة بالنظر إلى حقيقة العزوف عن
المشاركة في تلك الاستشارة، وقد اعترف سعيد نفسه أخيرا في كلمته يوم الخميس 24
شباط/ فبراير الجاري بأن الاستشارة الإلكترونية تشهد بُطءا أرجعه إلى أسباب تقنية،
وإلى مؤامرات خصومه أيضا.
مشاركة سعيد في مؤتمر بلجيكيا كانت بحسب المراقبين فاشلة
بل ومهينة لصورة تونس، ولم يحقق فيها قيس سعيد أي مكسب سياسي لنفسه ولا مكاسب
اقتصادية لتونس، وهي تمر
بأزمة مالية تهدد استقرار الدولة والسلم الاجتماعي.
لقاء
السفير الأمريكي بوزير الدفاع التونسي وبالأمين
العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي (وربما براشد الغنوشي)، دون
مقابلة قيس سعيد، يفهمه مراقبون على أنه بداية التحضير لغلق قوس الانقلاب. الطبوبي
الذي تلقى رسالة تهنئة من قيس سعيد بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للاتحاد،
خاطب رئيس الجمهورية يدعوه إلى حوار وطني يشمل كل المنظمات والأحزاب السياسي،
مؤكدا له أن الإصلاح لن يكون إلا بتكامل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وهنا، يتذكر المتابعون رفض قيس سعيد سابقا لمبادرة
الاتحاد الداعية لحوار وطني، بل لقد هاجم سعيد الحوار السابق وقال عنه إنه
"لم يكن حوارا ولا وطنيا"، وهو ما دفع بالأمين العام السابق للاتحاد
حسين العباسي، وهو من قاد الحوار الوطني في 2013، للرد عليه بقوة، كما كان رد
الطبوبي واضحا حين قال: لن نشتغل في لجان شعبية، وهي إشارة إلى مشروع قيس سعيد
القائم على التنسيقيات.
بعد سبعة أشهر من انقلابه، قضاها سعيد في إطلاق الشعارات والتهديدات وفي السباب والشتائم ثم في الاختطاف والمحاكمات العسكرية والمنع من السفر لمعارضيه، ها هو الآن يغرق ويتخبط ويزداد توترا واضطرابا، وها هي أخبار دائرته في القصر تتسرب عن خلافات وصراعات، خاصة بعد استقالة مديرة ديوانه وصندوق أسراره نادية عكاشة
بعد سبعة أشهر من انقلابه، قضاها سعيد في إطلاق الشعارات
والتهديدات وفي السباب والشتائم ثم في الاختطاف والمحاكمات العسكرية والمنع من
السفر لمعارضيه، ها هو الآن يغرق ويتخبط ويزداد توترا واضطرابا، وها هي أخبار
دائرته في القصر تتسرب عن خلافات وصراعات، خاصة بعد استقالة مديرة ديوانه وصندوق
أسراره نادية عكاشة.
هو الآن في عزلة داخلية وخارجية، وشعوره بضيق الدائرة
حوله يجعله يطلق مزيدا من الاتهامات ومزيدا من تحريض المواطنين ضد معارضيه، ولعل
أخطر ما قاله بعد مفردة "التطهير" بما هي مفردة تصفية جسدية، هو قوله
يوم 24 شباط/ فبراير الجاري في آخر مجلس وزاري: "سيكون مآلهم قريبا مآل كوفيد..
لقاح من الشعب". وقد يكون خياره الأخير لفك العزلة هو التحريض مرة أخرى على
العنف رغم أنه فشل في ذلك في مناسبتين (في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2021، وفي 6 شباط/
فبراير 2022)، حيث لم يستجب لدعواته إلا العشرات.
الأسبوع القادم ننتظر الإعلان عن ولادة جبهة وطنية مكونة
من أطياف مختلفة تتشكل على عناوين كبرى جامعة: الديمقراطية والمعالجة الاقتصادية والحريات.
وقد حصلت - وما زالت - لقاءات عدة بين معارضي الانقلاب ممن يرون في قيس سعيد خطرا
على بنية الدولة وعلى الحريات وعلى المسار الديمقراطي.
هذا التشكل الذي يزداد اتساعا، خميرته مرونة الأستاذ راشد الغنوشي الذي يعتبر الحرية عنوانا جامعا للجميع، ولا يرى حركته وصيّة على الديمقراطية ولا على الوطنية، وإنما هي فاعل وشريك مع غيرها في التصدي للانقلاب وفي الدفاع عن المؤسسات الدستورية
هذا التشكل الذي يزداد اتساعا، خميرته مرونة الأستاذ راشد
الغنوشي الذي يعتبر الحرية عنوانا جامعا للجميع، ولا يرى حركته وصيّة على
الديمقراطية ولا على الوطنية، وإنما هي فاعل وشريك مع غيرها في التصدي للانقلاب وفي
الدفاع عن المؤسسات الدستورية. وقد عبر الغنوشي عن استعداده للاستقالة من رئاسة
البرلمان إذا كانت استقالته مقدمة لحل الأزمة، كما وجه دعوة إلى رئيس الدولة يعرض
عليه تنازلات مشتركة لإنقاذ البلاد من أزمتها. لقد أقام عليه الحجة وبرّأ نفسه مما
يتهمونه به؛ من كونه هو العقدة التي أنتجت كل مشاكل البلاد السياسية والاجتماعية.
تونس جديرة بحل داخلي
تتعاضد فيه جهود أبنائها من سياسيين
وحقوقيين ومثقفين وإعلاميين ونقابيين وكل المواطنين، وهي تزخر بطاقات ومهارات في
مختلف الاختصاصات، وهي تتوفر على ما يكفي ليعيش عليها كل شعبها في مستوى عيش كريم
دون حاجة لمساعدات خارجية. وبقدر عناد قيس سعيد يزداد الضغط الخارجي وتتكثف تدخلات
السفارات والمنظمات الحقوقية، خاصة أن هذا العالم الخارجي قد أنفق الكثير من الأموال
منذ 2011 لدعم التجربة الديمقراطية التونسية حتى أضحى "شريكا" فيها؛
يبيح لنفسه التدخل ليس فقط حماية لهذا المسار وإنما أيضا حماية لمصالحه.
ولكن تونس قبل ذلك محتاجة داخليا إلى توفر العزائم
والنوايا الصادقة، وتحرر سياسييها من الأنانية والنرجسية ومن الخداع والاحتيال،
حتى لا يستمر المشهد السياسي في عبثيته وفي كونه تبادل أدوار بين مهرجين
وانتهازيين.
twitter.com/bahriarfaoui1