في
ظل التطورات الجارية في العالم اليوم يحتاج الإنسان للمزيد من المعرفة الحقيقية
بعيدا عن الصور النمطية السابقة، وكلما تعرف الإنسان على معلومات جديدة حول الأحداث
والتطورات شعر بحجم الجهل الذي يعاني منه، وهذا يتطلب المزيد من المعرفة للواقع
المحيط بنا.
هذه
خلاصة مكثفة يمكن استنتاجها عندما ينتهي القارئ من قراءة كتاب "المدرسة
الديوبندية وحركة
جماعة التبليغ"، الصادر حديثا باللغة العربية عن مركز الحضارة
لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت، وهو بالأساس صدر بالفارسية للباحث الدكتور مهدي
الموسوي وترجمه الأستاذ محمود عمار.
في
هذا الكتاب يأخذنا الكاتب إلى عالم
المسلمين في شبه القارة الهندية وأفغانستان
وباكستان وبنغلاديش، حيث نواكب نشوء هذه المدرسة الفكرية والحديثية (من علم الحديث)
والاجتماعية والسياسية، والتي كان لها تأثير كبير على واقع المسلمين في شبه القارة
الهندية طيلة 300 سنة تقريبا. ولا تزال تعتبر المدرسة الأكثر تأثيرا في تلك
المنطقة، وهي الخلفية الفكرية والدينية
لحركة طالبان والتي عادت لتحكم أفغانستان
اليوم بعد احتلال أمريكي دام حوالي عشرين سنة.
كون هذه المدرسة تشكل اليوم الخلفية الفكرية لحركة طالبان وتثار حولها الكثير من الأسئلة والإشكالات، يحتاج الباحث أن يستعيد تاريخ انطلاقتها وعلاقتها ببقية المدارس والحركات الإسلامية وأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى
والمدرسة
الديوبندية التي تأسست في مدينة ديوبند في الهند، على يد الشاه ولي الله دهلوي
وابنه عبد العزيز دهلوي وحفيده شاه إسماعيل، شكّلت مسارا جديدا في تاريخ المسلمين
في شبه القارة الهندية وانتشرت في بقاع العالم، وهي أطلقت من أجل الحفاظ على
الوجود الإسلامي في تلك البلاد ومن ثم تفرعت إلى مدارس وحركات متنوعة.
وكون
هذه المدرسة تشكل اليوم الخلفية الفكرية لحركة
طالبان وتثار حولها الكثير من الأسئلة
والإشكالات، يحتاج الباحث أن يستعيد تاريخ انطلاقتها وعلاقتها ببقية المدارس
والحركات الإسلامية وأتباع
المذاهب الإسلامية الأخرى. وللأسف فإن الكتابة عن هذه
المدارس والحركات باللغة العربية محدود جدا ولم يتم التطرق إليها بشكل معمق من قبل
الباحثين في العالم العربي إلا قليلا، وإن كان بعض الباحثين قد تطرقوا إلى هذه
المدرسة ومنهم الباحث المصري الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، في كتابه الصادر منذ
سنتين تقريبا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان: "النهوض
العاثر: الإصلاح والتجديد في الأزمنة الحديثة، المشارب والتجارب". وقد تحدث
فيه عن التجارب الإصلاحية في العالم العربي والإسلامي، وصولا إلى التجارب الإصلاحية
والحداثية والسلفية في شبه القارة الهندية.
وفي
كتاب "المدرسة الديوبندية وحركة جماعة
التبليغ" يستعرض الباحث الدكتور
مهدي الموسوي تاريخ انتشار الإسلام في شبه القارة الهندية، وكيفية توزع الفرق
والاتجاهات الدينية والمذهبية المختلفة، ومن ثم يستعيد التاريخ الفكري لمدرسة ديوبند
عبر الحديث عن العلامة الشيخ أحمد سرهندي الذي يعتبر مجدد الألفية الثانية في شبه
القارة الهندية. وبعد ذلك يتحدث عن تأسيس المدرسة الديوبندية على يد شاه ولي الله
دهلوي، وتطورها على يد نجله شاه عبد العزيز وحفيده شاه إسماعيل.
ويتناول
الكتاب أعلام المدرسة الديوبندية وكيفية إدراتها والأصول الثمانية التي قامت على أساسها،
ومن ثم مواقفها الفكرية من بقية المدارس الإسلامية وأتباع المذاهب الإسلامية،
وعلاقتها بالمذهب الحنفي والفرقة الماتريدية والمدرسة الوهابية، وموقفها من أهل
التصوف والشيعة، ودورها السياسي والجهادي في شبه القارة الهندية طيلة أكثر من
مائتي سنة وصولا إلى اليوم.
ومن
ثم يتطرق الكتاب إلى مدارس وحركات أخرى نشأت في شبه القارة الهندية وفي باكستان،
من وحي مدرسة ديوبند أو إلى جانبها أو في مواجهتها، وهي المدرسة البريلوية والتي أسسها
أحمد رضا خان البريلي في مدينة بريلي الهندية، وكذلك الجماعة الإسلامية برئاسة أبو
الأعلى المودودي، والتي تعتبر امتدادا لحركة الإخوان المسلمين وتلتقي معهم في أفكار
عديدة، ولاحقا جماعة حركة التبليغ والتي أسسها مولانا إلياس في ضواحي مدينة دلهي
وانتقلت من هناك إلى كل أنحاء العالم.
في ظل التطورات الجارية في الهند وأفغانستان نحتاج أكثر أن نعرف ماذا يدور هناك، وما هو واقع المسلمين في شبه القارة الهندية وصولا إلى مناطق أخرى في العالم
كل
هذه الحركات والمدارس التي تأسست وانطلقت من شبه القارة الهندية إلى كل أنحاء
العالم؛ أصبح لها تأثير كبير في الفكر الإسلامي والواقع الإسلامي اليوم، ومن هنا أهمية
أن نعرف أكثر عن هذه الحركات والمدارس، وفي أي سياق تأسست وما هو دورها وما هي الأفكار
التي تحملها وتدعو إليها، وأين تلتقي أو تختلف مع بقية المذاهب والمدارس الإسلامية
الأخرى. وللأسف فإن الصراعات والنزاعات بين أتباع هذه المذاهب والمدارس تصبح أقوى
بكثير من صراعاتها ومواجهتها لأعداء الإسلام، رغم أن معظمها قد انطلق أساسا للحفاظ
على الوجود الإسلامي في مواجهة الاستعمار البريطاني وفي مواجهة التحديات الأخرى
التي طالت هذا الوجود.
واليوم
وفي ظل التطورات الجارية في الهند وأفغانستان نحتاج أكثر أن نعرف ماذا يدور هناك،
وما هو واقع المسلمين في شبه القارة الهندية وصولا إلى مناطق أخرى في العالم. فعدد
المسلمين في تلك المنطقة يصل إلى حوالي 700 مليون مسلم (أي أكثر من ثلث المسلمين في العالم)، ويواجه المسلمون هناك تحديات كبيرة
على صعيد بناء الدولة والتنمية والحفاظ على الوجود. واليوم تواجه أفغانستان تحديات
كبيرة بعد أن استعادت حركة طالبان الحكم فيها، وهي تحتاج للدعم الاقتصادي والمالي
وبناء المؤسسات من أجل قيام نموذج جديد للحكم بعيدا عن العنف والصراعات التي
شهدتها وتشهدها المنطقة منذ عقود عديدة.
بدل الغرق في الصراعات المذهبية أو الخلافات الفكرية والأيديولوجية؛ لماذا لا يتم تقديم نموذج حضاري جديد يحفظ التنوع ويقدم أفضل ما في الفكر الإسلامي وتاريخ الحضارة الإسلامية من علوم وإبداع وتطور؟
والخيار
الوحيد أمام المسلمين في تلك المنطقة هو التعاون والبحث عن كيفية التكامل مع الدول
المحيطة بهم، وكذلك التعاون مع الدول العربية والإسلامية. فبدل الغرق في الصراعات
المذهبية أو الخلافات الفكرية والأيديولوجية؛ لماذا لا يتم تقديم نموذج حضاري جديد
يحفظ التنوع ويقدم أفضل ما في الفكر الإسلامي وتاريخ الحضارة الإسلامية من علوم وإبداع
وتطور؟
من
يقرأ عن المدرسة الديوبندية وجماعة التبليغ والمدرسة البريلوية والجماعة الإسلامية
وغيرها من المدارس والجماعات التي تأسست في شبه القارة الهندية يدرك حجم التنوع في
العالم الإسلامي، والأهم هو كيفية حماية هذا التنوع وتسخيره لخدمة الإنسان
والمجتمع وبناء الدولة، بدل أن يكون عامل فرقة وخصام وسببا للصراعات والحروب في
تلك المنطقة وفي كل أنحاء العالم.
ومن
هنا أهمية أن نعرف عن واقعنا أكثر؛ كي نبحث عن الحقيقة والمعرفة بدل الغرق في الصور
النمطية المسبقة ونطلق الاتهامات في ما بيننا.
twitter.com/KassirKassem