قضايا وآراء

ملاحظات سياسية ورياضية حول كأس العرب

1300x600
تحتضن العاصمة القطرية الدوحة هذه الأيام النسخة العاشرة من كأس العرب لكرة القدم التي تجري برعاية تامة من الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا، كتجربة وبروفة نهائية قبل احتضان قطر منافسات كأس العالم (مونديال 2022)، كأوّل دولة عربية تنال هذا الشرف.

البطولة التي انطلقت قبل ستين سنة تقريباً لم تجر بشكل منتظم، ومثّلت دائماً تعبيراً رياضياً عن المشهد السياسي العربي بشكل عام. والنسخة الحالية في الدوحة بعد توقف لعشر سنوات تقريباً، تجري بإشراف ورعاية تامة من الاتحاد الدولي لاختبار جهوزية قطر للحدث العالمي العام القادم، وهو تقليد اعتمده فيفا في العقود الأخيرة، ولكن مع بطولة كأس القارات تمهيداً للمونديال، وفحص جهوزية الدول المستضيفة كما جرى في روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وألمانيا في العقدين الأخيرين.

البطولة العربية التي انطلقت في الستينات يبدو أنها لم تكن مؤاتية لمزاج النظام الناصري وعبّرت عن مزاج قوميين عرب آخرين، لذلك لم تشارك مصر في خطواتها الأولى التي جرت في لبنان والأردن والعراق لثلاث مرات متتالية 63 و64 و66، ثم توقفت لعقدين تقريباً، طوال السبعينات حتى منتصف الثمانينات، نتيجة لأجواء ما بعد نكبة حزيران/ يونيو 1967، والاستعداد لحرب أكتوبر 1973، ثم نتيجة الانقسام العربي على خلفية ذهاب القاهرة منفردة إلى الصلح والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل؛ على عكس لاءات قمة الخرطوم الثلاث الشهيرة بعد النكبة الثانية.
البطولة التي انطلقت قبل ستين سنة تقريباً لم تجر بشكل منتظم، ومثّلت دائماً تعبيراً رياضياً عن المشهد السياسي العربي بشكل عام

استؤنفت البطولة كعادتها في التعبير عن المشهد السياسي على أجواء المصالحات العربية في منتصف الثمانينات لمرتين، والتسعينات مرتين أيضاً، حيث شهدت حضور مصر لأول مرة إثر الخروج من عزلتها العربية، خاصة مع استضافة البطولة "في الثمانينات" من قبل دول حليفة لها في ما عرف بمجلس التعاون العربي، الذي ضمّ الأردن والعراق واليمن إلى جانب مصر.

في الألفية الجديدة ظلت البطولة وفية لذاتها أيضاً لجهة تعبيرها عن المشهد السياسي العربي، حيث جرت مرتين فقط خلال عقدين، أي بمدى زمني أوسع عن انطلاقتها، ثم توقفت تماماً مع مطلع العقد الثاني إثر احتدام الخلافات السياسية. وعليه لم يكن غريباً أن تجري لآخر مرة في العام 2012 ثم تتوقف تماماً، على خلفية التباينات والهوة السياسية الواسعة التي أعقبت اندلاع الثورات العربية مطلع العقد نفسه.

بناء على ما سبق وقياساً للمشهد السياسي العربي الحالي، فلم يكن ممكناً التئام البطولة مرة أخرى، ولا أي جهة سياسية عربية كانت قادرة على فعل ذلك، ولولا رعاية فيفا لها والجوائز المالية الضخمة - ملايين الدولارات - ربما ما كانت البطولة الحالية لتبصر النور أيضاً.

رغم ذلك - أي إجراؤها برعاية تامة إدارية وفنية ومالية من الفيفا - إلا أن البطولة عبّرت ولو جزئياً أيضاً عن المشهد السياسي العربي الحالي، كما رأينا في مشاركة فريق نظام بشار الأسد المبعد من الجامعة (مع دعوات لعودته رغم رفض قطر ودول أخرى لتلك الدعوات)، إلا أنه شارك لكونه وللأسف لا يزال عضواً في الأمم المتحدة وفيفا، ما أثار استهجان الجمهور خاصة مع رفع علم النظام في حفل الافتتاح.
لم يكن ممكناً التئام البطولة مرة أخرى، ولا أي جهة سياسية عربية كانت قادرة على فعل ذلك، ولولا رعاية فيفا لها والجوائز المالية الضخمة - ملايين الدولارات - ربما ما كانت البطولة الحالية لتبصر النور

عبّر حضور الرئيسين الفلسطيني واللبناني، محمود عباس وميشيل عون، الافتتاح كذلك عن المشهد السياسي العربي، وهما ثمانينيان لا علاقة لهما بالشباب والرياضة. والأول هرب من الانتخابات بفظاظة ويتمسك بالسلطة بدعم خارجي فجّ، بينما الثاني انتخب تحت تهديد سلاح حزب الله وبصفقة قبل فيها ترؤس جسد الدولة اللبنانية مقابل التضحية بروحها الليبرالية المنفتحة على نفسها ومحيطها (التي قتلها الحزب)، وفي عهد عون تحوّل لبنان رسمياً إلى دولة فاشلة على حافة الانهيار بالمعنى الجادّ والمؤلم للمصطلح.

جيد طبعاً أن أجواء المشهد السياسي العربي المترهل والهرم والمنقسم لم تنعكس في أرض الملعب، ساحات التنافس، ولا في أجواء المدرجات، حيث شهدت البطولة أجواء احتفالية وروحا رياضية واسعة عبّرت عنها ببلاغة مباراة الجزائر والمغرب، حيث سادت الروح الرياضية وقواعد اللعب النظيف والتنافس الشريف المواجهة رغم القطيعة السياسية المؤسفة بين البلدين.

هذا سياسياً؛ أما رياضياً، فلا بد من الإشارة إلى التفوّق التاريخي للعراق في الفوز بالبطولة أربع مرات، ثم مرتين للسعودية، ومرة واحدة لكل من تونس والمغرب ومصر، وغياب لافت للجزائر رغم أنها من الدول الأعرق والأقوى في ممارسة اللعبة.

رياضياً أيضاً؛ لعبت الفرق الكبرى بالصف الثاني. لا يتعلق الأمر بمقاطعة أو تخفيض مستوى التمثيل لأسباب سياسية أو دبلوماسية، وإنما رياضية بحتة. فالجزائر مثلاً ينشط قوامها الأساسي في الدوريات الأوروبية، والبطولة ودية غير رسمية رغم رعاية فيفا، بمعنى أن الأندية الأوروبية غير مجبرة على ترك لاعبيها، لذلك شارك محاربو الصحراء بفريق من المحليين بقيادة المدرب مجيد بوقرة، بدلاً من الفريق الأساسي الذي يقوده جمال بلماضي؛ أفضل مدرب أفريقي للمنتخبات العام الجاري.
لعبت الفرق الكبرى بالصف الثاني. لا يتعلق الأمر بمقاطعة أو تخفيض مستوى التمثيل لأسباب سياسية أو دبلوماسية، وإنما رياضية بحتة

أمر مماثل فعله المغرب الذي يلعب قوام فريقه الأساسي في أوروبا أيضاً، لذلك شارك بفريق محلي يقوده المدرب المجتهد حسين عموتة، بدلاً من المدرب البوسني المخضرم وحيد خليل وزيتش. السعودية فعلت نفس الشيء أيضاً، لكن لإعطاء مساحة أوسع لإراحة قوامها الأساسي المرهق محلياً وقارياً، ومن أجل استعداد أفضل لتصفيات كأس العالم، لذلك شاركت بفريق من الشباب بقيادة مساعد مدرب الفريق الأول، الفرنسي العصامي المجتهد والناجح هيرفي رينار.

تونس شاركت بنصف قوامها الأساسي تقربياً، بقيادة مدرب الفريق الأول منذر الكبير، واستفادت من وجود لاعبين مهمين يلعبون في الدوريات العربية، كما نجحت جزئياً في إقناع بعض الأندية الأوروبية بترك لاعبيها بشكل ودي (الشاب حنبعل المجبري، لاعب مانشستر يونايتد). واعتبرت البطولة فرصة لاختبار وجوه جديدة من أجل استعداد أفضل لكأس أمم أفريقيا والمرحلة النهائية لتصفيات كأس العالم، واختيار من يصلح من هؤلاء للانضمام إلى الهيكل الأساسي الذي يلعب معظمه في أوروبا.

وحدها مصر من المنتخبات الكبرى شاركت بالقوام الأساسي للفريق الأول بجهازه التدريبي بقيادة البرتغالي كارلوس كيروش، رغم ازدحام الروزنامة المحلية مع كأس الأمم الأفريقية المقررة الشهر القادم، ثم تصفيات كأس العالم، ومشاركة الأهلي في السوبر الأفريقية، ومونديال الأندية، ومشاركة أربعة أندية في البطولات الأفريقية (دوري الأبطال والكونفدرالية الأفريقية)، ما يعني أن الدوري المحلي سينتهي في أواخر آب/ أغسطس القادم، علماً أن عدم المشاركة بالفريق الأول والاكتفاء بفريق أولمبي، كما فعلت السعودية، كان كفيلاً بإنهاء الدوري قبل شهر، وبالتالي إعطاء مساحة للراحة والاستجمام للاعبين بعد مواسم متصلة في السنوات الأخيرة.

هذا انعكس طبعاً عبر تداعيات سلبية هائلة على القوام الأساسي للمنتخب المتمثل بلاعبي الأهلي الذين أصيبوا بالكامل تقريباً، إضافة إلى أحمد حجازي الذي يكمل القوام مع محمد صلاح ومحمد النني.

أما سبب المشاركة فمادي بالتأكيد طمعاً بالجوائز المادية الضخمة، من قبل اتحاد مؤقت معين وغير منتخب ومتهم بالفساد، حيث تم اتهامه رسمياً في البرلمان باختلاس وتبديد وهدر 100 مليون جنيه تقريباً مع إحالة المخالفات نظرياً إلى النائب العام للتحقيق فيها، في مشهد ممجوج ومبتذل، فقط من أجل الابتزاز وإلهاء الرأي العام، تماماً كما حصل مع أداة النظام مرتضى منصور.

منتخب قطر، مستضيف البطولة، شارك أيضاً بقوامه الأساسي، وهو الآن أحد أفضل وأقوى المنتخبات العربية بفضل الاستقرار الإداري والفني. الفريق الذي تم تشكيله قبل سنوات فاز بكأس آسيا قبل سنتين، ويبدو منسجما وجاهزا بعدما راكم الخبرات المناسبة والضرورية للمشاركة في المونديال في العام القادم.
في أحسن الأحوال ستجري البطولة بشكل متفرّق وعلى فترات، لحاجات سياسية أو رياضية لهذا الطرف أو ذاك، ولكن بالتأكيد لن تكون للأسف متتابعة ومنتظمة كما أراد مطلقوها الأوائل قبل ستة عقود تقريباً

لا بد من الإشارة طبعاً إلى النجاح الجماهيري الكبير مع حضور نصف مليون مشجع تقريباً حتى الدور نصف النهائي، في مشهد مبهج ومبهر ومشجع لما سنراه في المونديال العام القادم إن شاء الله.

التنظيم كان ناجحاً، بل دقيقاً ومبهراً، والدوحة ستكون في الموعد وستقدم صورة مشرفة ومدعاة للفخر لها ولنا كعرب بشكل عام.

في النهاية، وبالعودة إلى السياسة، لا بد من التساؤل عن إمكان تنظيم كأس العرب في المستقبل دون رعاية وجوائز فيفا الضخمة، ربما تكون الدورة الحالية هي الأخيرة ومسك الختام للبطولات العربية، مع احتمال أن تسعى سعودية ابن سلمان مثلاً لاستضافتها لمرة أو أكثر في سياق التبييض الرياضي الذي يمارسه العهد الجديد. لكن وفي أحسن الأحوال ستجري البطولة بشكل متفرّق وعلى فترات، لحاجات سياسية أو رياضية لهذا الطرف أو ذاك، ولكن بالتأكيد لن تكون للأسف متتابعة ومنتظمة كما أراد مطلقوها الأوائل قبل ستة عقود تقريباً.