برزت الملامح الحركية القيادية عند الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران مع حدث القطيعة مع الشبيبة الإسلامية، وذلك بشكل متدرج، فطرح في أوائل الثمانينيات سؤال: أين المشكلة؟ هل هي في الاختيارات الحركية أم في القيادة؟ فكان الجواب الأولي الذي اختاره المجموع الحركي، أن المشكلة ليست في البراديغم الحركي، وإنما تتمثل في جوانب أربعة كلها ذات علاقة بالقيادة، مشكلة الثقة في القائد، ومشكلة الشورى والتداول، ومشكلة البرنامج الموحد الذي تخضع له القيادة، ومشكلة الميثاق الجماعي الذي يوحد عمل الحركة مركزا وأطرافا.
بالنسبة إلى عبد الإله بنكيران، فقد كان رأيه مختلفا، إذ كان ينظر إلى المشكلة أيضا في جانب آخر، لا يقل أهمية عن الجوانب السابقة المذكورة، إذ نضجت له آراء خاصة تنتقد بعض لوازم البراديغم الحركي، وترى أنه لا يمكن أن يكون ذا جدوى في البيئة المغربية، بل يمكن أن تكون له آثار كارثية.
مراجعات عبد الإله بنكيران.. وإرهاصات القطيعة مع الفكر الإخواني
كانت أول ما نضجت في فكر عبد الإله بنكيران في القطيعة مع بعض لوازم البراديغم الحركي، فكرة العلنية والقطيعة مع السرية. فقد كان بنكيران يلازم بين اعتماد السرية في العمل الحركي، وبين العزلة عن المجتمع، وأن هذه العزلة تنتهي إلى مقاطعة المجتمع، كما أنها تعرض التنظيم إلى خطر المتابعات الأمنية. كما لفت الانتباه أيضا، إلى الانحرافات التصورية والتنظيمية، التي تنشأ من جراء تبني السرية، إذ تمنع السرية من حركية النقد الذاتي داخل التنظيم، وتساعد على التطرف، وتفسح المجال لخصوم الحركة بنعتها بشتى الاتهامات، فما دام التنظيم سريا غير معلن، فكل اتهام يتوجه إليه لا يمكن دفعه، ولا يمكن تصحيح التمثلات السلبية التي تنشأ وتروج حول التنظيم.
ثاني الأفكار التي كان لعبد الإله بنكيران دور كبير في بلورتها للقطيعة مع لوازم أخرى من البراديغم الحركي الإخواني، فكرة الصدام مع السلطة، ونزع المشروعية الدينية والسياسية عنها. يظهر ذلك بوضوح، قبل الانشقاق عن الشبيبة الإسلامية، وتحديدا في موقفه مما نشر في مجلة "المجاهد" من استهداف للملكية ولقضية الوحدة الترابية، واستنكاره قرار قيادة الشبيبة توزيع المجلة بالمغرب سنة 1981، بسبب ما تضمنه العدد الأول والثاني من الدعوة إلى العمل المسلح ضد المؤسسة الملكية لإسقاط النظام، وتبني رؤية انفصالية لقضية الصحراء، إذ أقدم عبد الإله بنكيران، تزامنا مع حملة الاعتقالات التي طالت قيادات الحركة وأعضاءها، على توجيه رسالة إلى وزير الداخلية، يشرح له فيها مبادئ الجماعة، وأهدافها ووسائل اشتغالها، وأنها لا علاقة لها بالعنف، أو منازعة السلطة شرعيتها السياسية أو الدينية، وأن وظيفتها الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
الأدبيات الأولى للحركة الإسلامية التي انتهى مآلها إلى المشاركة السياسية، حاولت نقل هذه القناعة التي عبر عنها بنكيران بنحو أصولي، وآخر فكري، توجها معا إلى إعادة قراءة المفهومين القرآنيين: الولاء، والركون إلى الذين ظلموا.
فالدكتور سعد الدين العثماني، تناول القضية ضمن العناصر المرنة في التشريع، حيث عرض مثال الركون للذين ظلموا في سياق شرحه لمفهوم النصوص الظنية والألفاظ المشتركة، فأكد أن هذا اللفظ (الركون للذين ظلموا) أو لفظ (الولاء) هو لفظ يتردد بين معان كثيرة، بعضها لغوي، وبعضها مجازي، وبعضها شرعي، لينتهي إلى أن المنهي عنه شرعا في الركون والولاء، هو المودة والنصرة، وتزكية الظلم ومحبة الظالمين ومساعدتهم عليه، وأن ما عدا ذلك، من مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة، أو درء مفسدة عامة أو خاصة، مع كراهة ما هم عليه من الظلم، فذلك مشروع. وأما التحول الفكري، فهو ما نحاه محمد يتيم في تمييزه بين الولاء السياسي والولاء الشرعي، وتأكيده أن الولاء مفهوم عقدي، وليس مفهوما سياسيا، وأن ما جعله يحمل حمولة سياسية، هي رواسب التجارب السابقة، التي كانت تنطلق من فكرة إظهار المعارضة والصلابة لجلب الأنصار، وأن القرآن بين حمولة المصطلح العقدية، وقصد به موالاة الكافرين ونصرتهم وطاعتهم، وأن هذا المفهوم لا ينطبق على العلاقة التي بين الدعاة والحكام، لسببين: أولهما، أن الحكام لم يكفروا كفرا بواحا. وثانيهما، أن مداهنة الحكام لا تأخذ حكما واحدا في الشرع، وإنما تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة، وذلك بحسب الحالة التي تكون فيها، وأن الحالة التي تحرم فيها المداهنة هي أن يشكر ظالما على ظلمه.
لم يكن عبد الإله بنكيران معنيا بالخوض في الاعتبارات الفكرية والأصولية لتوضيح هذه المفاهيم، فقد ظهر له من تجربته انسداد أفق العمل الإسلامي الذي ينضبط للبراديغم الحركي الإخواني، وأنه لا يصلح البتة لتنزيله في البيئة السياسية المغربية، فانتبه مبكرا إلى أن الصدام مع السلطة، أو نزع الشرعية القانونية أو السياسية أو الدينية عنها، ليس فيه أي مصلحة للعمل الإسلامي. بل فيه مفاسد لا تحصى، فقرر ترك الهدف الاستراتيجي الذي رفعه البراديغم الحركي (هدف إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة)، ورسم للحركة رهانا وهدفا: الدعوة والبلاغ المبين، وأن الحركة لا ترجو من ذلك سوى رضى الله عز وجل وهداية الناس إلى الحق، وأنها ليست متعبدة بإقامة الدولة الإسلامية، ولا تتبنى منهج التغيير السياسي الذي يختصر المشكلة في الحكام، ويرى أن الحل في إزاحتهم وإقامة الحركة محلهم، وإنما جوهر اهتمامها ينصب على الإنسان، وتغيير ما بنفسه، وحمله على الاستقامة، لأنها هي الطريق الوحيد لصلاح ما بالدنيا والنجاة في الآخرة، وأن المجتمع إذا استقام، سيدفع الحكام إلى الاستقامة، وأن ذلك سنة الله في الخلق، وأن إقامة خلافة راشدة ليس سوى حلم وردي، لأن سنة الله في خلقه، أن الحكم يسير المجتمع، وأنه يستقيم باستقامته ويفسد بفساده، وهذا ما فسر سبب تحول الخلافة الراشدة إلى حكم عاض، على الرغم من أن الذي كان يحكم الأمة هو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
يلتفت عبد الإله بنكيران مبكرا إلى خطورة الهيمنة والإقصاء في فكر الحركة الإسلامية وخطابها، ويؤكد بأن قضية الإصلاح ليست حكرا على الإسلاميين، ولا يمكن لوحدهم أن يضطلعوا بمهامه، وأن من ينطلق من هذه الفكرة، ينطلق من فكرة أنه خير من الجميع، وأنه وحده الذي يمكن أن يضطلع بالإصلاح.
ويعمق بنكيران هذه المراجعة بطرح سؤال طبيعة الحركة الإسلامية، وهل هي حركة سياسية أم حركة إسلامية، ويبين كيف قادته تجربته في العمل الإسلامي، إلى التمييز بين الفهمين، فالدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي موجود في الإسلام، لكن الإسلام ليس موجودا بالضرورة في الدولة الإسلامية، وأن الجماعة حين تقوم على أساس التغيير السياسي، يصبح هذا التغيير هو الهدف، فيرسم هذا الهدف مسار الجماعة، فيصبح أعضاء الجماعة متحمسين لكل عمل فيه التغيير كالعمل السياسي، في حين يستصغرون الأعمال الأخرى المطلوبة من الدعاة بصفتهم مسلمين، فلا ينشط العضو لها دائما ولا ينشط لها كثيرا ولا ينشط لها بنفس القوة.
ويبين بنكيران أثر هذا التصور على علاقة الحركة بالسلطة، فحين تتبنى الحركة مفهوم التغيير السياسي يكون موقفها من السلطة الرفض. لكن، حين تتبنى التغيير بمفهومه الإسلامي، تلتفت لجميع أبعاد الدين بغية أن يرتفع منسوب الاستقامة في المجتمع، فتأخذ العلاقة مع السلطة أشكالا مختلفة، من الرفض أو الاعتزال أو القبول أو المشاركة والتعاون، وذلك بحسب تحليل الحركة للوضع وتقديرها له.
يلتفت عبد الإله بنكيران مبكرا إلى خطورة الهيمنة والإقصاء في فكر الحركة الإسلامية وخطابها، ويؤكد بأن قضية الإصلاح ليست حكرا على الإسلاميين، ولا يمكن لوحدهم أن يضطلعوا بمهامه، وأن من ينطلق من هذه الفكرة، ينطلق من فكرة أنه خير من الجميع، وأنه وحده الذي يمكن أن يضطلع بالإصلاح.
ويؤسس بنكيران لفكرة التعاون والمشاركة، ودورها في دفع المجتمع ليكون مساهما في الإصلاح، ويركز على ملحظ بعيد في فكرة المشاركة، كونها تدفع الجميع إلى إزاحة الذات، والتركيز بدلا عن ذلك بالموضوع. فالموضوع هو الإسلام، وهو مقدس ومنزه، بينما الذات شيء آخر، يمكن أن تخطئ وتصيب، ويمكن لاجتهادها أن يكون مجانبا للصواب أو متمتعا بمواصفات الرشد والنضج.
ويرى بنكيران، تبعا لهذا التصور، أن الإقصاء يدفع أطيافا من الحركات الإسلامية إلى الانزواء، ذلك أنها باتت تعتقد أن مشروعها الشامل، لا يمكن تحقيقه في الظروف الحالية، فيدفعها ذلك إلى الانطواء، فتحرم من تحقيق الممكن انتظارا للأفضل المستحيل.
وهكذا تتالت مراجعات الأستاذ عبد الإله بنكيران، فمست خمسة مواقف: موقفه من فكرة إقامة الدولة الإسلامية، وموقفه من النظام الملكي، ومن شرعيته الدينية، ومن الأحزاب السياسية ومن الأطياف الإسلامية، كما مست نقده الحاد للشعار الذي طالما انبنى عليه العمل الإسلامي ذو الطبيعة الإخوانية (الإسلام هو الحل).
يوسف حامد العالم ودوره في التأسيس للصحوة الإسلامية بالسودان
الأمين محمد عثمان.. إسلامي سوداني عمل بالطب والسياسة
قراءة في أطروحات المفكر والروائي المغربي حسن أوريد