ما حدث في
السودان لم يكن بدعا من الانقلابات، بل كان من نافلة العسكر وبداهة السلاح؛ ذلك أن أي مراقب للحالة السودانية القائمة كان سيدرك ببصيص من الرؤية بأن انقلابا وشيكا سيقع على رأس المكون المدني في السلطة الانتقالية. فثمة الكثير من العوامل التي أشّرت على ذلك؛ أهمها الموقف الجديد للبرهان حول رفضه تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، خلافا للاتفاقات المبرمة في الوثيقة الدستورية، مع اقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين. كان ذلك كافيا ليفهم أي مراقب أن ثمة انقلابا في الطريق السريع المؤدي إلى مجلس السيادة الانتقالي.. هذا إذا تجاهلنا أن المكون المدني نسي أنه يتعامل مع مكون نقيض لا يفهم لغة الحوار إلا في حالات المراوغة وتمييع المواقف، أو تحت ضغوط مدنية سرعان ما يصطدم بها ثم يتجاهلها. وقد اعتدنا على الانقلابات، والسودان أرض خصبة في إنتاج أكثر هذه الانقلابات بشاعة..!!
واهم من يظن بأن الانقلاب الذي حدث جاء على خلفية الخلافات القائمة مع الشق المدني من مجلس السيادة، وواهم من يظن أن العسكر سيسلمون الحكم للمدنيين بهذه البساطة. إن للعسكر ترتيبات أخرى، إنهم يماطلون وحسب، وسوف يسيطرون على السودان بطريقة أو بأخرى مهما كان ضغط التدخلات الخارجية التي لا يهم أصحابها في النهاية سوى مصالحهم، ولا يعنيهم الاستقرار إلا حين يعود عليهم بمكاسب مادية أو معنوية ليس غير.
وواهم من يظن بأن الانقلاب جاء بناء على تقديرات العسكر وقراراتهم، بقدر ما هو ناجم عن المشاورات أو الإملاءات التي تأتي من خارج الحدود، من خلال سلسلة متواصلة من المشاورات التي تأتي نتائجها على شكل توصيات ينفذها العسكر بناء على وعود الدعم الاقتصادي والسياسي. وقد أبدى البرهان في بيانه الذي انتظره السودانيون لتسع ساعات؛ الامتنان والشكر لمن سمّاهم "الجيران والأصدقاء والأشقاء" الذين ساندوا السودان، وهي إشارة واضحة إلى داعمي الانقلاب، ولا تحتاج معرفة أسماء هذه الدول إلى كثير ذكاء؛ فهم الجيران والأصدقاء والأشقاء..!!
إن ما يحدث في السودان ليس منفصلا عما يحدث في مناطق أخرى من الوطن العربي.. إنها استراتيجية عامة لتصفية الثورات العربية، وهي منظومة متكاملة لوأد الثورات، وكتم أنفاسها نفسا تلو نفس..!!
وفي المحصلة، فإن ما جرى كان انقلابا كامل الأركان، جاء لقطع الطريق على فكرة التداول السلمي للسلطة والتحول إلى الدولة المدنية المتفق عليها، وكان من أكثر الإجراءات الانقلابية دلالة على سوء النوايا والوقوع في الفساد اعتقال رئيس لجنة التفكيك وأعضائها وإلغاء كل قراراتها؛ لأنها بالضرورة تمس المكون العسكري. فكل التقارير الشفافة في وطن اللصوص تدين العسكر أو بعض رموزه إذا أتيح لها أن تكون شفافة، وما قصة اعتقال "هشام جنينة" - الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات في مصر - والتنكيل به وتشويه صورته عبر الإعلام الفاسد ببعيدة عنا اليوم..!!
حين أحس العسكر بحتمية سقوط البشير ركبوا الموجة، وادعوا التعاطف مع الشعب، مع أنهم من ذات مدرسة البشير وذات اللون السياسي، وكانت تربطهم به صلات قوية تصل حد الصداقة القائمة على الثقة المتبادلة، لكن الشعوب لا تتعلم، ومن أكبر أخطائها الثقة بثعابين السيرك التي ترقص على وقع الطبول، لتثير دهشتهم وتسرّي عنهم، متناسيع أنها أفاعٍ وأن الأفاعي لا يؤمن جانبها. وما أدق ما أجاب به صحافي خبير، حين سئل عن أسوأ ما مر عليه في حياته المهنية، فقال: "حاكم لا يرحم ومعارض لا يتعلم"!!
لقد وقع الإسلاميون في فخ العسكر في مصر، ووقعوا في فخ السياسة المواربة في المغرب، ووقعوا في فخ التقلبات السياسية في السعودية واليمن، وفي فخ الطائفية في سوريا، وشمت بهم من شمت من العلمانيين واليساريين، وها هو
اليسار العربي والعلماني في السودان يسقط في ذات الفخ؛ فهل يشمت بهم الإسلاميون؟!
ستظل الغلبة للقوة إلى أن يأتي من رحم الفقر والظلم والعنت جيل يعرف كيف يقبض على يد الجزار، ويستل منها سكينه، ويغرسها في صدره قبل أن يستقبلها هو في صدره. وبخلاف ذلك ستظل أوطاننا تعاني من الموت السريري على يد طُغم فاسدة، تستند في إجرامها إلى كفلاء أثرياء يدفعونها لذبح الوطن وبيع دمه رخيصا في سوق المال الملوث ومواخير الفجور..!!