مقالات مختارة

مصر: ديون متراكمة ومصير غامض للعاصمة الجديدة

1300x600

كانت النية معقودة على تناول مأزق الديون الواقعة على كاهل المواطن المصري، وتأثيرها العام على الأوضاع الداخلية والعلاقات الخارجية؛ الصديقة والمحايدة والمعادية، وعلى انخفاض مستوى المعيشة واتساع رقعة الفقر، وخروج الديون عن حدود الأمان، ومما يفاقم ذلك حلول معتمدة لدى «المشير السيسي»؛ يرفع بها معدلات الجباية، وفرض الإتاوات الحكومية؛ إضافة إلى أعباء ضريبة باهظة على الجميع.

 

وطالت كل الطبقات، وتجاوزت الطاقة على التحمل؛ باستثناء شرائح وفئات نافذة ومتخمة بين قطاعات النفط والاتصالات، والقوات المسلحة والشرطة، وهناك ما يُطلق عليهم جنرالات القضاء والإدارة والمقاولات، فضلا عن حيتان المال والأعمال؛ المقربين من «المشير» ومنهم هشام طلعت مصطفى، الذي أنعم عليه بعفو رئاسي (صحي) وتم إخراجه أثناء تنفيذ العقوبة، مدانا بقتل فنانة لبنانية.

 

وبدا العفو لحاجة «المشير» لمن يساعده في ترويج وتسويق «العاصمة الجديدة» في ظل الركود الناجم عن ديون تجاوزت حدود الأمان، وتسترجع الذاكرة التاريخية عن آثار ديون الخديوي اسماعيل؛ وكان مهووسا بأوروبا؛ خاصة باريس، وعمل على جعل القاهرة «باريس الشرق» دون تفكير في تهجير أهلها وهو يبني عاصمة أخرى محلها.


و«العاصمة الجديدة» الحالية لم تكتمل، ولذلك علاقة بالديون المتراكمة، والتي تضاعفت ثلاث مرات في السنوات الثماني الماضية، وهل لذلك دلالة بقرار «المشير» بعدم مد قانون الطوارئ، الذي مكنه من الانفراد بكل شيء، وإحكام القبضة على البلاد والعباد.. و«العاصمة الجديدة» مثلها مثل «الجمهورية الجديدة» وكتبنا على هذه الصفحة من أسابيع بأنها عمل لا مبرر له، والعهد الجمهوري بدأ في مصر منذ يونيو/حزيران 1953، وانتهت الجمهورية الأولى في مايو/أيار 1971، وتم الإجهاز عليها في 1974؛ بتغيير مضامين وهياكل السياسة والاقتصاد والمال، والانتقال من نظام اقتصادي واجتماعي قام على قاعدة ثلاثية الأَضلاع؛ بقطاع عام، وقطاع خاص، وقطاع تعاوني، وحدد «الميثاق الوطني» وظيفة كل قطاع منها ودوره التنموي الشامل والدائم والمتوازن؛ القادر على مضاعفة الدخل كل عشر سنوات.


أما الاقتصاد الحالي فكسيح وعشوائي ويُغطي عواره بـ«جمهورية جديدة»؛ ليس لها من الاسم نصيب، فحكم مصر «شخصي» لا يُفرق بين مَلَكِية وجمهورية، وقد اعترف «المشير» على رؤوس الأشهاد بذلك، وأقر بأنه «مش سياسي»؛ أي لا يمت للسياسة أو الحكم بصلة، ولا يفرق بين حكم ملكي وراثي وآخر جمهوري إنتخابي؛ وهي بذرة وضعها أنور السادات؛ بـ«نصيحة» صهره ونديمه المقاول عثمان أحمد عثمان، وكان يرددها كثيرا على مسامعه، ويقول «الدولة تاجر فاشل» وصارت المقولة مبدأ وفلسفَة مغايرة لإدارة الاقتصاد؛ أفقدت الاقتصاد الوطني استقلاله ودوره الاجتماعي وتميزه التنموي، وبلغ معدل نموه بعد نكسة 1967 (في سنة 1969 تحديدا) نحو 9٪، وبعد ذلك تجاوزت الصين ذلك المعدل في خططها التنموية الخمسية المتتالية، بعد مصر بسنوات؛ في تسعينيات القرن الماضي واستمر ذلك لبداية الألفية الثالثة.


وأثرت المقولة «العثمانية» على مسار الاقتصاد، وانتقلت به من قدرة عالية في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وقَطْع أشواط طويلة في مضمار الكفاية والعدل، واستنادا إلى المقولة «العثمانية» البائسة، أخذ السادات بسياسة «الانفتاح».. السداح مداح حسب رأي الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين، وكانت بداية دخول مصر للعشوائية الاقتصادية، وتصفية الأصول المالية والعقارية الوطنية، وتبديد القروض والهبات المدفوعة ثمنا للانهيارات التي أصابت مصر.


ولفتت «العاصمة الجديدة» نظر المجلة الألمانية «دويتشه فيله» فنشرت عنها تحليلا في أكتوبر 2018 عنوانه «مصر لا تحتاج عاصمة فخمة بل عالية الكفاءة» ولخصت المشكلة بأنها كامنة في الاهتمام بالمشاريع الضخمة بدلا من منح الأولوية للجدوى والكفاءة، ويبدو أن مصالح المستثمرين تغلبت على أمل المصريين في عاصمة توفر لهم سكنا وعملا، واستعرضت المشروعات الشبيهة التي لم تنجح في منع التوسع العشوائي، ووصفته بـ«التوسع الكارثي» بسياج ممتد إلى أحياء «مدقعة الفقر» ومحرومة من الخدمات الأساسية، واعتبره «المشير» والقائمون على «العاصمة الجديدة» المشروع الحلم؛ لضخامته وطاقة إستيعاب تصل إلى 6 ملايين نسمة. وتكاليف قُدِّرت بأكثر من 45 مليار دولار أمريكي، وحسب مصادر عليمة قَدَّرت التكلفة النهائية بأكثر من 300 مليار دولار(!!).


أما الاقتصاد الحالي فكسيح وعشوائي ويُغطي عواره بـ«جمهورية جديدة»؛ ليس لها من الاسم نصيب، فحكم مصر «شخصي» لا يُفرق بين مَلَكِية وجمهورية



هناك ما يكفي من تبريرات لبناء «عاصمة جديدة»؛ تخفف من الضغط الزائد عن القاهرة. وتوفر فضاءً لازما لتحديث البنية التحتية، ومعروف أن كلفة الإنشاء مُضاعفة؛ تفوق كلفة التحديث والتطوير؛ خاصة بين عشوائيات بائسة، ويبقى غالبية سكانها داخلها، وعدم نقلهم، وتوفير ما يلزم من مساعدات، وكم أعمال يمتص بطالة العاطلين، وتأمين خدمات ضرورية مطلوبة؛ تعليم ورعاية صحية واجتماعية ونفسية، وتدريب مهني ونشاط حرفي، ووسائل نقل آدمية؛ لكن ما يجري على أرض الواقع لا يُطمئِن لإيجاد حلول مجدية وعملية وقابلة للتنفيذ، ففي «العاصمة الجديدة» تم بناء أكبر جامع في مصر، وتشييد أكبر كنيسة في الشرق الأوسط، وأعلى الأبراج الفاخرة، وانتشرت روايات عن بناء برج أعلى من برج خليفة في دبي، الذي بلغت تكلفته نحو 1.5 مليار دولار. وإلى جانب الحي الحكومي، بُنيت أحياء العلوم والتكنولوجيا والثقافة، وأحياء فاخرة؛ تجارية وإدارية وسكنية وفندقية معدل سعر حجز المتر المربع في البداية بـ8- 9 آلاف جنيه مصري، وحاليا وصل السعر لأرقام فلكية، وأسعار المكاتب والمتاجر فحدث عنها ولا حرج.


وقل الإقبال على «العاصمة الجديدة» وبدأت تعاني من ركود شديد بسبب غلاء الأسعار، وأثار ذلك شهية مستثمرين، أصحاب الملايين من بلاد النفط والثروة، وهم عادة يشترون ويبنون شققا وعقارات أخرى فأسرة ساويرس تحقق أرباحا طائلة؛ تفوق قدرة الطبقة الوسطى وأصحاب الدخل المحدود، وممن ليس لديهم فرص شراء مسكن أو متجر بأسعار مغالى فيها. ولهذا السبب وغيره بدت «العاصمة الجديدة» ومشاريعها الفاخرة فرصة لمستثمرين باحثين عن أرباح عالية، وغالبيتهم أجانب ومن «القتلة الاقتصاديين» الذين يجيدون المضاربات، ويذكون نارها، وهم من قناصي الفرص، وإذا كان المشروع مجديا لهؤلاء، فالأمر عكس ذلك بالنسبة للاقتصاد المصري الذي لم تفلح المضاربات في التخفيف من حدة مشاكله الهيكلية.


والإخوة ساويرس وهشام طلعت مصطفى وإخوته، وأبناء حسين صبور، يُنظر إليهم كـ«قتلة اقتصاديين» على الطريقة المصرية، وأبرز أنشطتهم هو مجال الإفساد العمراني، فأقاموا أبراجا شاهقة الارتفاع في ضاحية مدينة الشيخ زايد في محافظة الجيزة، وهي مدينة مفتوحة على صحراء مصر الغربية، وأغلب من اشتروا أرضها من أباطرة المال والأعمال دفعوا في المتر المربع جنيها واحدا وأحيانا أقل من جنيه للمتر المربع، وحصلوا على ملايين الأمتار وباعوها بالمزادات بأسعار فاقت التصور، وصل المتر المربع لآلاف الجنيهات، وكلما زاد ثراء هؤلاء وتوحشوا ساعدتهم الدولة وخدمتهم الحكومة، وعلى الطبقة الوسطى وما دونها دفع جبايات ورسوم وضرائب وأسعار ما أنزل الله بها من سلطان.


وعند السؤال عن موعد الانتهاء من «العاصمة الجديدة»؛ جاء الرد في يوليو 2019، على لسان اللواء أحمد زكي عابدين رئيس «العاصمة الجديدة» في مقابلة مرئية، قال فيها يتم انتقال مقر الرئاسة ومجلس الوزراء في يونيو أو يوليو 2020، ويُنْقل البرلمان بعد سنة، مؤكدا أن توجيهات «المشير السيسي»؛ قضت بالانتهاء من عملية نقل الوزارات خلال شهري يونيو ويوليو 2020، ولم يتم هذا الانتقال فما هي أسبابه؟..


وبعدها رد هاني مصطفى؛ مستشار رئيس الوزراء للإصلاح الإداري، فيقول: «أحنا في مرحلة تجارب والأمور ماشية كما ينبغي، وتدريب العاملين ينتهي في ديسمبر القادم، ونسير في طريقنا الطبيعي»!!، وعاد وصرح مساء السبت الماضي 23/ 10/ 2021 أن تاريخ الانتقال للعاصمة الجديدة سيعلنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قريبًا، وكانت المفاجأة فيما ذكره عن تقليل النفقات وتقليصها، وقال إن الهدف هو تقليل مصروفات الجهاز الإداري للدولة، وبدون تمويل أصبح مصير «العاصمة الجديدة» معلقا بين السماء والأرض؛ أليست هذه هي العشوائية بعينها بعد كل هذه الصرف والتبديد(!!).

كاتب من مصر

 

(عن صحيفة القدس العربي)