إذا صح ما أعلنه مسؤولو الاستخبارات الأمريكية الثلاثاء من أن في وسع القاعدة أن تعيد بناء هيكلها التنظيمي داخل أفغانستان، وتستعيد قدراتها الحركية في غضون عام أو عامين، فإن بلدان الغرب معرّضة لمزيد من الكوارث الإرهابية التي لن يتجرع مراراتها الإنسانية، آخر الأمر، إلا العرب والمسلمون.
إذ رغم أن طالبان تعهدت، في اتفاق السلام مع أمريكا في شباط/فبراير 2020، بعدم إيواء المنظمات الإرهابية، فلا أحد يأخذ هذا التعهد مأخذ الجد، خصوصا بعد أن أفادت الأنباء بعودة بعض عناصر القاعدة إلى أفغانستان وتناقلت مواقع التواصل شريط فيديو يظهر أن مسؤول الأمن السابق في القاعدة أمين الحق، الذي كان ملازما لابن لادن في معركة تورا بورا، قد عاد الشهر الماضي إلى ولاية نانغرهار.
ومعروف أن القاعدة لا تعادي الغرب والأنظمة العربية فقط، وإنما هي تعادي عموم المسلمين الذين يسالمون من سالمهم. ولهذا، فإن عدوانها على الإنسانية لم يبدأ بهجمات 11 سبتمبر 2001، وإنما باغتيال القائد أحمد شاه مسعود قبل ذلك بيومين.
كان مسعود أمجد أبطال الجهاد ضد الاحتلال السوفييتي. وقد بثت القنوات العالمية هذا الشهر وثائقيات عبّر فيها كبار القادة السوفييت عن بالغ احترامهم لمسعود، لما اجتمع في شخصه من فضائل العبقرية العسكرية وسماحة الطبع والوفاء بالعهد.
والرأي عندي أنه القائد الأشبه بالأمير عبد القادر الجزائري: كلاهما خاض الجهاد اضطلاعا بواجب الدين والوطن، دون اعتبار لاختلال موازين القوى أو لحسابات الربح والخسارة. وكلاهما خبر وحشية العدو، لكنه لم يستسلم للبغضاء المضلّة والحقد المعمي عن الحق. وكلاهما كان نبيلا بليغا محبا للشعر ذواقة للجمال.
خططت القاعدة لاغتيال مسعود بإرسال انتحاريّين تنكّرا بصفة صحفي ومصور يرغبان في إجراء حوار تلفزيوني معه، فوقع الاغتيال في 9 أيلول/سبتمبر 2001. كانا يحملان جوازي سفر بلجيكيين ويزعمان أنهما من أصل مغربي. لكن تبين أن الهويتين منتحلتان، وأن الجوازين كانا ضمن 19 ألف جواز اختلست من السلطات البلجيكية بين 1990 و2000. أما ما أثبتته التحقيقات، ثم نشرته الصحف العالمية في 2005، فهو أن الانتحاريين تونسيان: منتحل صفة المصور هو بوراوي الواعر، ومنتحل صفة الصحفي هو عبد الستار دحمان.
نموذج الشخصية التي تتصيّدها القاعدة هو تلك الفريسة المستسلمة لتباريح الكبت الناجم عن سعة الهوة بين القدرات والطموحات. لكن هذا لا يكفي. بل ينبغي أن يستولد الكبت والإحباط عنفا ونقمة على الوجود.
ولكم كانت دهشتي بالغة لما قرأت الاسم الأخير. تذكرته فورا لأنه كان طالبا معنا في الجامعة التونسية طيلة أربعة أعوام! لكن ما إن بدأت أسترجع شريط الذكريات، حتى أخذت دهشتي تتناقص. تذكرت أنه كان طالبا محدود المستوى، وأنه قال لي مرارا إنه من عائلة موسرة من منطقة جندوبة، وإن والده سيتكفل بإرساله بعد التخرج إلى بلجيكا، حيث الأقارب والمعارف.
ولم يحدث أن أثير موضوع الدين أبدا في أي من أحاديثنا، إذ لم يكن له بالدين التزام ولا معرفة، كما لم يكن في معهد الصحافة آنذاك إسلاميون ولا محجبات. لكني لاحظت، في العام الرابع، أن مسلك الرجل بدأ يتغير وأن أقواله وردود أفعاله أخذت تتسم بالتشنج عموما والعدوانية أحيانا. ومذّاك لم أره.
فقد كان من الزملاء الكثر في الجامعة، لا من الأصدقاء المعدودين الذين أصاحبهم وأقاسمهم ولعا بالشعر والسينما والمسرح.
أما أبرز ما أتذكر عنه فهشاشة التكوين. من ذلك أننا ذهبنا، جمعا من الطلاب إلى فندق المشتل لحضور مؤتمر عن الأقمار الاصطناعية بعيد أشهر من إطلاق قمر عربسات الأول عام 1985، وكان من الضيوف الصحفي المتميز حمدي قنديل رحمه الله ورائد الفضاء الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز،
وشمل المؤتمر معرضا شاركت فيه كبريات شركات الاتصالات المنتجة للأقمار تتقدمها أيروسباسيال.
وبما أن الحديث مع ممثلي هذه الشركات العالمية فكان بالفرنسية، التي لا يتقنها، فقد وقف الرجل يرمق زملاءه يطيلون الحديث مع الأجانب ويستفسرون باهتمام عن هذه التكنولوجيا التي كانت جديدة بعد، ثم إذا به يهمهم بامتعاض ويكاد يغادر مغاضبا!
لا يزال للقاعدة، اليوم، مخزون احتياط من مثل هذا الشباب الطاعن في المرارة والإحباط، ذلك أن نموذج الشخصية التي تتصيّدها القاعدة هو تلك الفريسة المستسلمة لتباريح الكبت الناجم عن سعة الهوة بين القدرات والطموحات. لكن هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يستولد الكبت والإحباط عنفا ونقمة على الوجود كله، حتى تكتمل بذلك أركان الشخصية المهزوزة المهزومة السكرى بألحان «عليّ وعلى أعدائي».
وإلا فكيف يمكن لشاب منّ الله عليه بنعمة دراسة الفكر السياسي والاجتماعي، من مونتسكيو وتوكفيل حتى ديفيد ريسمان وإدغار موران، أن يسخّر نفسه بعد ذلك أداة تسيّرها عقول الكهوف في عصور الظلمات في أفغانستان؟