أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم 11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.
والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن..
وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث..
"عربي21"، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟
الكاتب والإعلامي المصري جمال سلطان يعرض لتجربة الإسلاميين في مصر وتعاطيهم مع مسألة التداول على المناصب القيادية..
مبدأ مثالي وأخلاقي ليس إلا
بشكل عام، تمثل الثقافة السائدة في أي مجتمع، وخاصة الثقافة السياسية، روحا تسري في أوصال فعالياته المختلفة، فتصبغها بصبغتها، أيا كان الموقع الذي تشغله، في السلطة أو في المعارضة، في الحزب السياسي أو المنظمة الأهلية، وبالتالي فلنا أن نتصور أن "ثقافة الإسلاميين" في بعض جوانب الفعل السياسي في مصر لا تختلف كثيرا عن ثقافة الآخرين، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، خاصة وأن الحراك السياسي للجميع ـ منذ سيطرة العسكريين على السلطة في يوليو 1952 ـ ينشأ وينمو عادة في مناخ سياسي شبه مغلق، وتكسوه سحابات الخوف والتوتر وغياب اليقين بالمستقبل.
وثقافة تداول السلطة، وفق هذا السياق، ليست شذوذا عن القاعدة، فلا يوجد في مختلف التيارات السياسية المصرية فكرة تداول السلطة ابتداء، إلا كمبدأ أخلاقي مثالي، لا يعمل به عادة، ولذلك وجدنا أن حزب اليسار الأكبر في مصر، حزب التجمع الوطني الوحدوي، تولى رئاسته مؤسسه خالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار السابقين، وظل على قمة الحزب رئيسا له حتى انهارت صحته وبدأ عارض فقدان الذاكرة "الزهايمر" يؤثر عليه، فتولى من بعده الدكتور رفعت السعيد رئاسة الحزب، وأبقوا على خالد محيي الدين كرمز معنوي للحزب، في إجراء تكريمي لا أكثر.
كذلك الأمر كان مع كل من فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد الجديد، ممثل الليبرالية المصرية الجديدة، ومصطفى كامل مراد، رئيس حزب الأحرار، والمهندس إبراهيم شكري رئيس حزب العمل، الذي كان يمثل ما يمكن وصفه باليسار الإسلامي، فكل هذه الأحزاب ظل الرئيس المؤسس لها على رأس الحزب حتى وفاته، تماما مثل أي رئيس جمهورية مر على مصر، لا يذهب إلا بالوفاة أو الانتزاع بالقوة.
هناك إشكالية في "النظرية السياسية الإسلامية"، وكيفية تماهيها مع مقتضيات العمل الحزبي السياسي الجديد، مثلت عائقا أمام العقل السياسي الإسلامي أو حجر عثرة أمام انطلاقه بثقة واطمئنان، وخاصة فكرة السمع والطاعة لولي الأمر أو القائد، وفكرة أن القائد لا يعزل إلا لأسباب طارئة تستدعي عزله، أو فكرة منازعة الأمر أهله
التيار الإسلامي في مصر أيضا كانت تصبغه تلك الوتيرة، ولعل أبرز معالمه يتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، كبرى الجماعات الإسلامية في مصر، فمنذ تأسيسها كان الإمام حسن البنا، الرئيس المؤسس، هو رئيس الجماعة وقائدها حتى وفاته، وكذلك ظل المستشار حسن الهضيبي، الذي خلفه في قيادة الجماعة، حتى وفاته، وكذلك الأستاذ عمر التلمساني الذي خلفه، حتى وفاته، ثم حدث منذ الثمانينات تغيير في قيادة الجماعة، منصب المرشد، أكثر من مرة، ليس لأسباب تتصل بثقافة تداول السلطة، وإنما لأسباب تتصل بالحالة الصحية للمرشد، وكذلك ساعد تعدد الأقطاب التاريخية في مكتب الإرشاد على تسهيل فكرة التغيير، لأنهم أنداد، خاصة عندما وقع خلاف حاد بين المرشد الراحل مهدي عاكف ومجموعة الدكتور محمود عزت، لأسباب تتصل بالتيار الشبابي الذي بدأ يتململ في الجماعة ويشعر بالتضييق والحصار وعدم إعطائه فرصة للمشاركة في صناعة القرار.
والحقيقة أن هناك روايات عديدة تتحدث عن غياب الشفافية في الانتخابات الداخلية التي كانت تجرى لاختيار الكوادر، سواء في مجلس الشورى أو مكتب الإرشاد، وقد روى المهندس أبو العلا ماضي ـ في صفحته على فيسبوك ـ طرفا من تلك المواقف التي جرت في هذا السياق، والتي أدت في النهاية إلى انشقاق العديد من الكوادر المهمة وتأسيس حزب الوسط، لأنها وجدت من المحال إصلاح الأوضاع في ظل سيطرة ما أسموه بالحرس الحديدي، والمقصود بهم قدامى مكتب الإرشاد، ومن عرفوا بمجموعة تنظيم 65، وهي مجموعة قوية ما زالت تسيطر حتى الآن على القرار، وكانت ترى أن التيار الشبابي لا يحظى بالثقة الكافية لإدارة شؤون الجماعة أو الوصول بها لبر الأمان.
الجماعة الإسلامية، لم تختلف كثيرا عن هذا السياق، فقد ظلت المجموعة المؤسسة للجماعة ـ برئاسة كرم زهدي ـ تقودها منذ نهاية السبعينيات وحتى التسعينينات من القرن الماضي، قبل أن ينسحب اثنان من المؤسسين بعد الخروج من السجن وإتمام مرحلة المراجعات الفكرية، فخرج كرم زهدي، وناجح إبراهيم، لأسباب تتعلق بخلاف فكري حاد، لتستكمل المجموعة المؤسسة مسيرة الجماعة حتى قيام ثورة يناير.
الدعوة السلفية لم تختلف أيضا، ظل مجلس إدارتها المؤسس يقودها بدون أي تغيير، ثم تفرد بالقيادة عمليا الشيخ ياسر برهامي، منذ ما قبل ثورة يناير وحتى اليوم بدون منازع، رغم انشقاق بعض قادة الدعوة المؤسسين مثل الشيخ سعيد عبد العظيم، على خلفية تباين الموقف من الانقلاب العسكري.
ثورة يناير.. محطة فارقة
والحقيقة أن هذه الجماعات حتى ذلك التاريخ ـ 25 يناير 2011 ـ يمكن القول بأنها كانت جماعات دعوية دينية، تعمل بهامش سياسي ضعيف، باستثناء الإخوان الذين حرصوا على المشاركة في أغلب الانتخابات البرلمانية والنقابات، فجعل ذلك لهم حضورا سياسيا غير مؤثر جوهريا، ولكنه كان الأبرز في الحالة الإسلامية، كما كانت الحركة الحزبية بكاملها هامشية وغير جوهرية في ظل نظام استبدادي، يبحث عن معارضة شكلية أو ديكورية وليست معارضة جادة يمكن أن تمثل بديلا له.
في المرحلة التي أعقبت ثورة يناير انتشرت روح السياسة في الجميع، واندفع الإسلاميون بكافة تياراتهم، لتأسيس الأحزاب، حتى أن هناك قرابة عشرة أحزاب تشكلت في تلك الفترة القصيرة، أبرزها حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان، وحزب النور التابع للدعوة السلفية، وحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية، ويلاحظ أنها كلها أحزاب ولدت من رحم جماعاتها الأم، وظلت موصولة بحبلها السري ولم تقطعه، إضافة لحزب الأصالة وحزب الإصلاح وحزب الوطن وأحزاب أخرى صغيرة.
قصر عمر التجربة الحزبية التي قضى عليها الانقلاب العسكري بعد عامين تقريبا من نجاح الثورة، لم تتح الفرصة للتقييم، سواء بالتزام الأحزاب الجديدة بقوانين الأحزاب "المدنية" وفكرة تداول السلطة، أو في قدرتها على الاستقلال عن رحمها الأم، الجماعة الدينية، وفي اعتقادي ـ ومن تأملات طويلة في الواقع ـ أن التجربة كانت ملهمة ومبشرة، وواعدة بتطور سريع وإيجابي وتراكم خبرات سريع، لولا قطع الطريق عليها بالانقلاب.
إشكالية في النظرية السياسية الإسلامية
في الجانب النظري، هناك إشكالية في "النظرية السياسية الإسلامية"، وكيفية تماهيها مع مقتضيات العمل الحزبي السياسي الجديد، مثلت عائقا أمام العقل السياسي الإسلامي أو حجر عثرة أمام انطلاقه بثقة واطمئنان، وخاصة فكرة السمع والطاعة لولي الأمر أو القائد، وفكرة أن القائد لا يعزل إلا لأسباب طارئة تستدعي عزله، أو فكرة منازعة الأمر أهله، وفكرة تجريم النقد السياسي، وفكرة التزاحم على السلطة أو حتى الترشح لمناصب القيادة في حد ذاتها، وصولا إلى فكرة العمل على عزل القائد أو الحاكم وفق قواعد سياسية أو دستورية أو حتى بثورة شعبية، وهل هذا حرام شرعا؟ فكل هذه النواحي وغيرها، فيها التباس كبير بسبب نصوص تراثية متناثرة، ومنتزعة من سياقاتها، ولم توضع ضمن نظرية سياسية متكاملة، تتيح للحركات الإسلامية الجديدة أن تبني عليها مشروعاتها السياسية بما يدمجها بقوة وثبات في الحراك السياسي الوطني العام، هناك قلق ما زال حاضرا في العقل الإسلامي تجاه كثير من تلك الجوانب، إضافة إلى غموض الرؤية تجاه القبول بمقتضيات الخلاف السياسي والتعددية، وعدم تحويل الخلاف السياسي إلى خلاف عقدي أو ديني.
الثابت والتكتيكي في موقف إسلاميي المغرب من التطبيع
كيف أدار إسلاميو فلسطين التداول على المواقع القيادية؟ (3من3)
كيف أدار إسلاميو فلسطين التداول على المواقع القيادية؟ (2من3)