قضايا وآراء

إسرائيل تقول: لن أمر بجانبك.. سأمر من خلالك

1300x600
قبل حوالي عشر سنوات تجمعت معلومات خطيرة لدى أجهزة المعلومات والمتابعات في إسرائيل؛ عن أن "المقاومة الفلسطينية" تعتمد استراتيجية جديدة في الحرب ضد إسرائيل تقوم على "نزع الشرعية عن الدولة الإسرائيلية"، وأن هذا يحدث ضمن تحرك دولي مدروس جيدا وواسع النطاق لتأكيد حقيقة أن إسرائيل "دولة إبادة وإحلال واحتلال".

أجهزة المعلومات هذه أكدت أيضا أنه يتعين على إسرائيل إدراك أن تحديات الأمن القومي الإسرائيلي لم تعد كما الماضي البعيد. ويبدو أن الحديث عن تجميع أبناء ديانة محددة لتسكينهم في أرض مغتصبة من أهلها وإنشاء دولة فوق كل هذه الهرطقات؛ أمر أصبح ينظر إليه نظرة تختلف عما كانت عليه في القرن الماضي.

"الوعي الآن يجب أن يكون إلى جوار القوة إن لم يسبقها. يجب علينا أن نفهم أن الأمن في القرن الحادي والعشرين لن يقوم على الطائرات والدبابات فقط".. هكذا تحدث "تسفي هاوزر" (52 سنة) قبل أربع سنوات مضت.

هاوزر هو عضو الكنيست والسكرتير العام السابق للحكومة الإسرائيلية (2009- 2013)، وهو دارس للقانون وأحد أهم من يكتبون عن فلسفة الدولة اليهودية في صحيفة يديعوت أحرونوت، ومن أوائل الأصوات التي طالبت بتأسيس وحدة دعاية إسرائيلية لمواجهة المقاومة الفلسطينية في خطها الجديد لـ"نزع الشرعية عن إسرائيل". أيضا كان هو أول من بادر بالحديث عن أهمية وجود "خطة وطنية لتعزيز البنى التحتية للتراث الوطني"، وهو ما حدث بالفعل، وأدرجت هذه الخطة ضمن قسم التراث في مكتب رئيس الحكومة. وفي عام 2015 تحولت الخطة والقسم إلى مجال عمل في وزارة التراث وشؤون القدس.

ويعلق على وجوب النظر لفكرة الأمن القومي الإسرائيلي من زاوية نظر جديدة قائلا: إن إسرائيل تستثمر في السلاح أضعاف أضعاف ما تستثمره في الدعاية، وأن الزيادة التي تخصص لميزانية وزارة الدفاع يتم توجيهها كلها نحو التسلح الذي يشير احتمال استخدامه الفعلي إلى التقلص إن لم يكن منعدما بالأساس، وذلك بدلا من "تحديث تحديات الأمن القومي"..

وضع ألف خط تحت الجملة الأخيرة، وتأملها كثيرا وأنت تتابع الفرحة الغامرة لدى القيادات الإسرائيلية الآن من قصة التطبيع والسلام التي تجرى على قدم وساق مع دول ليست لها نزاع مباشر، لا في الماضي ولا في الحاضر، مع إسرائيل، وهو ما استلزم معه أن يأتي بومبيو بنفسه ويجوب البلدان لتحقيق التطبيع مع إسرائيل بالأمر المباشر "لإسباغ وإكمال الشرعية على إسرائيل في المنطقة".

هاوزر ذكر أيضا أن إسرائيل اليوم في خضم معركة دولية على الوعي وفي مواجهة حرب استنزاف تهدد أمنها وأرصدتها الاستراتيجية. وينقل عن الجهاز الاستخباراتي في فرقة 8200 (المتخصصة في التجسس الالكتروني) أنه كان يتعين على إسرائيل أن تنشئ وحدة تضم آلاف الأشخاص التي تعمل في "الحرب على الوعي" بمختلف اللغات وعلى مختلف الجبهات، وهو يقول صراحة "إن مواجهة الإسلام المحافظ في المنطقة يجب ألا تكون بواسطة القدرة العسكرية فقط، بل كذلك بوسائل متعددة المجالات".

"عاموس يدلين"، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق "آمان" (2006-2010)، والذي يرأس الآن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، والذى يختص (ضمن عدة اختصاصات أخرى) بالتوازن العسكري في الشرق الأوسط والحرب الالكترونية، قال اتصالا بهذا الموضوع: "إن أخطر دولة في الشرق الأوسط الآن هي دولة فيسبوك، ومن سيقودون الولايات المتحدة بعد 20 سنة يتعلمون اليوم في الجامعات التي تدور فيها دعاية معادية لإسرائيل، وهذه مسألة خطيرة".

إسرائيل أنشأت بالفعل في عام 2016م جهازا هدفه "محاربة حملة نزع الشرعية عن إسرائيل" باعتباره خطرا استراتيجيا يمكن أن يؤدي مستقبلا إلى عزلة دولية، معتبرين أن الخطر الأساسي لفكرة نزع الشرعية هذه هو "النجاح في الحصول على دعم جماعات لديها أفكار أكثر اعتدالاً، وخاصة مجموعات ليبرالية ودينية غربية".

وتدور نشاطات هذا الجهاز حول تنظيم الإسرائيليين العديد من المحاضرات عبر شخصيات دينية معروفة من الداخل الإسرائيلي، وعبر نشر حقائق مزيفة عن الفلسطينيين في العديد من المجلات والصحف الغربية، وتشوه صورة الفلسطيني المقاوم أمام الرأي العام الغربي، أيضا تأليف الكتب التي تشرح القضية الفلسطينية من وجهة نظرهم، مع تحريف الحقائق التاريخية بالطبع، وإحكام السيطرة على أكبر المراكز الإذاعية والتلفزيونية في الولايات المتحدة تحديدا، واستغلال السينما من أجل الحفاظ والحصول على المزيد من التعاطف مع اليهود بالتذكير، الدائم بأفران الغاز والهولوكوست، وتغيير الحقائق المتعلقة بالقضية العربية والصراع العربي الإسرائيلي، والسعي لتحقيق وتأكيد فكرة "الوجود الطبيعي" لإسرائيل في الشرق الأوسط، بل وأهميته وضرورته للغرب والعالم.

* * *

هاوزر أيضا تحدث ضمن هذا الموضوع عن حركة "BDS" للمقاطعة التي تدعو إلى سحب الاستثمارات وفرض العقوبات من دول أوربية على إسرائيل كدولة احتلال، وهي الحملة التي تم الإعلان عنها في عام 2005 بمبادرة من عشرات المنظمات الفلسطينية غير الحكومية في مؤتمر "دوربان" في جنوب أفريقيا، تأثرا بتجارب النضال في جنوب أفريقيا، أيضا حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة ضد الاضطهاد العنصري. وكان الهدف من تأسيسها محاربة الاحتلال الإسرائيلي عبر فرض مقاطعة دولية عن طريق الحرب الاقتصادية وفرض العقوبات عليها وسحب كافة الاستثمارات منها، في محاولة لإجبارها على إنهاء الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث.

وبالفعل قامت العديد من الشركات الدولية بوقف عملها في إسرائيل وسحبت استثماراتها منها، خاصة بعد قرار الاتحاد الأوروبي في عام 2016 بتأييد الحق في الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. ومن أوضح مظاهر جدية الحملة وقوتها هذا الموقف الإنساني والتاريخي للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، في 12 حزيران/ يونيو 2020م، والذي أدان بالإجماع القرار الذي اتخذته المحكمة الفرنسية العليا ضد نشطاء حركة مقاطعة إسرائيل في فرنسا عام 2015م، كون هذا الحكم انتهاكا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (المادة 10) الخاصة بحرية التعبير.

* * *

الفترة القادمة ستشهد تطبيقات واسعة لفكرة "حروب الوعي" هذه، والتي ستحاول إسرائيل فيها المحافظة على تماسك اللُحمة الاجتماعية والسياسية الإسرائيلية "المهددة بنيويا بدرجة كبيرة" من جانب، ومن جانب آخر التحرك الواسع والنشيط داخل الخريطة العربية لبسط سيطرتها وتعميق شرعيتها، وهي الخريطة التي تمر الآن بأسوأ ما يمكن أن تمر به خريطة تضم حواضر ومدنا وبلدات وشعوبا تتحدث لغة واحدة ويرجع تاريخها لحضارة واحدة.

twitter.com/helhamamy