أخبار ثقافية

يوم غضب العاشق سيد درويش

درويش استطاع أن يشق طريقا جديدا تنطلق منه الموسيقى المصرية والعربية- أرشيفية

للشيخ سيد درويش تاريخ حافل بالمجد الفني. ذلك أشهر من أن نحتاج إلى سرده وتوضيحه. لكنّ بعض حكاياته الشخصية لم تنتشر كما تقتضي أهميتها وطرافتها. ربما بسبب الوفرة الوافرة من المعلومات التاريخية المهمة التي يجدها الباحث عن سيد درويش، الذي استطاع، رغم صغر سنه، أن يشق طريقا جديدا تنطلق منه الموسيقى المصرية والعربية.


شأنَ المبدع الحقيقي، كان الشيخ سيد حاملا لجينات الصدق والتلقائية والتمرد. كان مثالا لفنان تحاصره ظروفه فيحتال للفرار منها. ففي طفولته التحق بمعهد ديني ملحق بمسجد المرسي أبو العباس، بالإسكندرية، ليحفظ القرآن الكريم. ثم التحق بالأزهر، ودرس فيه سنتين، ثم فُصِل بسبب غنائه على المقاهي. وكانت وقتها تؤدي دور المسارح إلى حد ما؛ يقدم المغنون أغانيهم، كما كانت بعض الفرق المسرحية تقدم عروضها على المقاهي منذ القرن التاسع عشر في مصر.


من طرائف سيد درويش، أنه ظل متمسكا بلقبه الأزهري: "الشيخ سيد" حتى بعد أن تفرغ للتلحين والغناء وكرس حياته لهما. لا أحد يعرف السر في ذلك، لعله نوع من الحنين للطفولة وذكرياتها.


كان الشيخ سيد فقيرا معدما، فاضطر إلى العمل عاملا في صناعة البناء. يحكي بعض المؤرخين أنه في سنة 1908 (في قول آخر 2010) كان منهمكا في العمل بموقع بناء، فطلب زملاؤه العمال أن يغني لهم شيئا، فقد كان معروفا بجمال صوته، وصادف أن كان الأخوان سليم وأمين عطا الله في مقهى قريب، فسمعاه وانبهرا بصوته، فعرضا عليه الانضمام لفرقتهما "فرقة سليم عطا الله"، وكانت فرقة مهمة وقتها، فعمل معهما فترة وسافر معهما إلى لبنان سنتين تقريبا، وهناك صقل موهبته بدراسة الموسيقى.

 

مع عودته إلى الإسكندرية، بدأ يتألق وتذيع أغنياته وألحانه، لكنه كان ما يزال فقيرا، يضطر إلى العمل صباحا عامل بناء، يقفز من سقالة إلى أخرى، ويحمل الزلط والحجارة، وفي المساء يغني على المقاهي أو في الأفراح.


هكذا التقى بملهمته الست جليلة، أو "أم الركب" كما عرفت وقتها. وهي حكاية طويلة تحمل في طياتها ملامح سيد درويش، الفنان، الذي لا يصبر لحظة عن نوازع نفسه، بما في ذلك من مشاعر القسوة المدمرة أحيانا، وإشهار فنه سلاحا فتاكا ينال به أي شيء.


جليلة راقصة شعبية عادية، تحيي أفراح الإسكندرانية ومناسباتهم الاجتماعية من زفاف أو طهور مولود ونحو ذلك، مما يغني فيه الشيخ سيد أيضا. هناك حكاية متداولة، لم أجد لها توثيقا تاريخيا، عن لقائه بها. كان يحيي حفل زفاف، وكان من نظام الأفراح وقتها أن يُفْصَل بين الرجال والنساء بحاجز. وبعد انتهاء الشيخ سيد من فقرته الغنائية. جلس بجوار الحاجز. التفت نحو قسم النساء لتلتقي عيناه بعيني راقصة الحفل جليلة، التي يبدو أنها كانت تنتظر فقرتها، أو ربما فرغت منها.


ابتسمت له، فاشتعلت النار في قلبه. على طريقة الحكايات الشعبية، وقع الشيخ سيد في غرام جليلة.


وحتى تكتمل المفارقة، لم تكن الست جليلة جميلة بمقاييس زمننا الحالي. كانت متينة البنيان، طويلة، عريضة المنكبين. نقرأ في الشعر العربي القديم صفات المرأة الفاتنة، التي تشبه هذه الصفات، والتي ظل بعضها مستمرا في أذواق المصريين البسطاء حتى عهد قريب؛ حيث تعدّ المرأة جميلة إذا كانت متينة البنيان، فارعة القوام. يبدو أن هذه المقاييس كلها لا تعدو أن تكون مواصفات اجتماعية لا تُلزم عاشقا بشيء. عشق الشيخ سيد جليلة وانتهى الأمر.


بدأت قصة الحب، لكن الشيخ سيد عامل بناء فقير، لم يكن ذائع الصيت وقتها، وللست جليلة رؤية مختلفة للحب. ربما بسبب قسوة ظروفها أو طبيعة ثقافتها ومهنتها، فقد كانت ذات قلب كبير، قادر على استيعاب عدد وفير من الرجال! يمكننا أن نستنتج أنها كانت راقصة لعوبا، قادرة على أسر القلوب والعقول. ولم تجد سببا للاقتصار على عاشق واحد، موهوب للغاية، لكنه فقير، غير متعلم، لا يكاد يجد قوت يومه.


لا أحد يروي كيف ولماذا التقت الست جليلة بالصائغ "إبراهيم القاضي"، أحد أثرى تجار الذهب في سوق الصاغة بالمنشية القديمة بالإسكندرية. قيل إن تعرفها عليه حدث في أثناء جفوة بينها وبين سيد درويش، لكن بدا أن الأمر يتطور، فالقاضي يزور بيتها، وهي تزور محله، حتى إنه أهداها خلخالا ذهبيا ثمينا، مرصعا بقلوب ذهبية صغيرة.


غلب القهر قلب سيد درويش فسعى إلى كل منهما طالبا منه إنهاء هذه العلاقة، فلم يأبه له أحد منهما، وقيل إن القاضي طرده من محله شر طردة وحاول ضربه بعصاه. وهذا ما بلغ بالشيخ سيد إلى أن ينتقم أشد انتقام تجرأ عليه في حياته الفنية، فكتب ولحّن أغنيته "الصاغة"، حيث يقول:


في الصاغة الصغيرة شوفوا العجايب والعجب
على الشمال أول دكان صاحبه جدع اسمه القبطان
عنده حلق خفه وكردان وآدي الحقيقة بتنكتب
تاني دكان سيبك منه والتالت اللي باقول عنه
تاجر شهير ولا فيش منه ولكل شيء دايما سبب
رابع دكان سلم لي عليه دانا قلبي مايميل إلا إليه
والخامس اللي أقبل إيديه ده يساوي طب كيل دهب
أما بقى ساتت دكان استنى عنده يابو القمصان
تلقى اللي فيه قاضي النسوان عمر اللي زيه ماينعتب
بيقولوا مرة عمل خلخال ينفع ركاب لتلات بغال
سألت مين لبسه ياعيال قالوا جليلة أم ركب
ماعرفش إن كان دا معلم ولا دا للعشاق سلم
صبرك عليه بكره يضلم وتشوفوا فيه كل العجب


في الأيام التالية، وكعادة سيد درويش منذ بدأ يرتقي سلم الشهرة، كانت بعض أغانيه تسري بين الناس كالنار في الهشيم، فقد كان لطبيعته الشعبية، وخفة دمه، ونفاذه إلى هموم البسطاء وأحلامهم، كان لذلك كله مفعول السحر في إذاعة أعماله على لسان أهالي الإسكندرية.


هكذا أخذ المغنون يغنون الأغنية على مقاهي الإسكندرية وفي أفراحها، فلا تجد الست جليلة فرصة للرقص إلا على أنغام الأغنية التي تحط من شأنها وشأن عشيقها الثري، فقد شبه درويش ساقها بساق البغل، وأفرط في إهانة الصائغ "القاضي"، حتى أصبح الناس يذهبون إلى محله في السوق للفرجة عليه، وكسدت تجارته فأغلق محله خزيا، بعد أن جعله الشيخ سيد أضحوكة سوق الصاغة، مخصصا له، وحده، نصف أغنيته، وللصاغة الخمسة الآخرين نصفها.


انتهى مستقبل الست جليلة في عالم الرقص، التي صارت شهرتها "أم الركب"، سخرية من ساقها التي تشبه ساق البغل، خاصة بعد أن ظلت إذاعة الإسكندرية تذيع الأغنية يوميا، فالتزمت بيتها، حتى استطاعت مصالحة الشيخ سيد، وعادت إلى حبه تائبة.


لكنّ الست جليلة لم تدر وقتها أنها بتوبتها تلك، فتحت بابا عظيما لإبداع الشيخ سيد الذي لحّن وغنّى لها بعض أشهر أغانيه، التي كُتِب لها الحياة إلى الآن، وأصبحت من علامات الغناء العربي الحديث، مثل: "أنا هويت وانتهيت"، و"زوروني كل سنة مرة"، و"على قد الليل ما يطول"، و"ضيعت مستقبل حياتي في هواك".


من كان يتوقع أن تولد بعض علامات الغناء العربي من رحم قصة الحب هذه؟