أفكَار

الموسيقى الملتزمة.. تحديات الهوية والمشهدية الفيلمية

ثورات الربيع العربي تعيد إحياء الموسيقى الملتزمة (أنترنت)

من المباحث الفلسفية المهمّة التي ظلّت مشغل الفلاسفة بدءا من "جمهورية" أفلاطون وانتهاء بـ "الجماليّة الفنيّة" لتيودور أدورنو، أبرز رواد مدرسة فرانكفورت منتقدة "العقلانيّة الأداتيّة" التي حوّلت الإنسان إلى أداة بدل تحريره، مرورا بـ"نقد مملكة الحكم" الكانطية وفن نيتشه القائم على اندماج قوّة "ديونيزوس" وجمال "أبولون"، هو تحرير الممارسة السياسية، بما هي فعل إنساني، من بعديها التقني والوضعي.

هذا التأسيس للروح الجمالية صلب الممارسة السياسية، ولو كان ذلك عبر ما سمّاه نيتشه بـ"تحويل الألم وتناقضات الوجود وعبثه إلى مظاهر فنية يُحوّل الوجود الممل والعبثية إلى وجود جميل"، يقابله سعي مماثل إلى تحرير الفن ممّا أسماها أدورنو بحضارة "صنم البضاعة"، التي حوّلت الأعمال الفنيّة والأدبيّة والموسيقيّة إلى سلع تباع وتشترى، فيُصار بالفن إلى مرتبة الانفصام التام عن المعارك الاجتماعيّة والسياسيّة وواقع الفنان المعاش، فتكون بذلك صداقة الفنان المعلنة للشعوب صداقة كاذبة، على حدّ وصف بول نيزان في كتابه "كلاب الحراسة"، ولو تغنى بالحب والعشق والجمال.

من هذه الزاوية، تكمن أهميّة الموسيقى الملتزمة أو الموسيقى السياسية، من خلال قدرتها على الربط بين جماليّة الفن وضنك حمل الرّسالة الإنسانيّة، المرتبطة بهمّ الأوطان والشعوب، فيعرج بذلك العمل الفني من مربّع التجارة والاستهلاك المبتذل وضيقهما، إلى رحابة القيمة وصداقة الشعوب الحقيقية، التي تمثّلها بول نيزان، بيد أنّ سماحة الفكرة غالبا ما تصطدم بتحديات الواقع الاجتماعي المرير، الأمر الذي يُركس النقاوة الثورية، في الغالب، في أتون التحدّيات الذاتيّة والموضوعيّة.

في تونس، مثل المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، الذي التأم من 1 إلى 6 شباط (فبراير) الجاري، فرصة مواتية للدفع بالسؤال نحو مضامين التجديد المطلوبة والتحديات المرحليّة التي تواجه الموسيقى الملتزمة، ما بعد ثورة 17 من كانون أول (ديسمبر) 2010، خصوصا بعد تحقّق مكسب الحريّة الذي طالما مثّل حجر عثرة حال دون نشاط الموسيقى الملتزمة وانتشارها، زمن فترتي حكم الراحلين بورقيبة وبن علي. 

كما أنّ انحسار مجال توسع الموسيقى الملتزمة وأغانيها، بالكاد اقتصر نشاطها على المهرجانات الموسمية، على قلّتها، وبعض حفلات الطلبة والمنظّمة الشغيلة، دافع مهم للبحث في خبايا فئويتها ومناقشة فرضيّة انفصامها عن الواقع الاجتماعي المعاش، وفق القراءة الأنثروبولوجية لعادل بلكحلة، استاذ علم الاجتماع والباحث في انثروبولوجيا الأغنية الملتزمة بالجامعة التونسية، في تصريح لـ "عربي21".

يناقش التقرير مسألتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بمدى ارتباط نشأة الموسيقى التونسيّة الملتزمة بواقع حركتها الاجتماعية، وحدود تاريخانيتها بالصورة التي نادى بها آلان تورين، القائل بوثوق العلاقة بين التوجهات الثقافية للمجتمع والشكل الاجتماعي الذي يصبغها بصبغة الصراعات الاجتماعية، أمّا الثانية فتتعلّق بالبدائل الفنية المطروحة على الموسيقى الملتزمة، زمن طغيان الصورة أو المشهدية، والأهم من ذلك مدى ارتباط هذه الموسيقى بالموروث الثقافي التقليدي، على النحو الذي ينادي به قرامشي، القائل بضرورة بناء الحركة الاجتماعية الثقافية على الموروث الشعبي وإن كان ذلك بطريقة نقديّة.
 
الدورة الثانية للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة

بإشراف مباشر من وزارة الشؤون الثقافية، وبالتعاون مع مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة ودار الثقافة ابن خلدون، نظمت دار الثقافة ابن رشيق بتونس الدورة الثانية للمهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، والذي شارك فيه الفنان اللبناني أحمد قعبور ومجموعة "ثلاثي جبران" الفلسطينية و"اسكندريلا" المصرية والمغنية السورية فايا يونان، ومن تونس ياسر الجرادي ومجموعة أجراس والبحث الموسيقي وعيون الكلام، إضافة إلى الورشات الثقافية الملتئمة على هامش المهرجان، بتأطير من الفنانين المغربيين مصطفى وسناء.

 



وبسؤاله عن الإطار العام الذي تنزّل فيه هذا المهرجان، أكّد سفيان القاسمي، مدير دار الثقافة ابن رشيق، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ المؤسسة الثقافيّة العموميّة تراهن على ثقافة العقل وثقافة النقاش والتحليل والتواصل، وهي تعمل جاهدة على غرس ثقافة الالتزام الفني، مؤكدا في الإطار نفسه على ضرورة المراهنة على شباب مشاريع مواطنين أسوياء، قادرين على التحليل وعلى بناء رؤية نقدية من خلال مضامين هادفة، والأغنية الملتزمة هي أحد أوجهها. وعن مقاييس اختيار الفرق والفنانين المشاركين في الدورة الثانية للمهرجان، أكّد على أن الجهات المنظّمة تواكب إنتاج الفرق الموسيقية الملتزمة ومدى حرصها على تجديد نفسها وعلى قدرتها على تجديد أشكال موسيقاها ومضامينها، وعلى هذا الأساس تم النظر في البرمجة مع مراعاة سياق المرحلة والوضع السياسي العام.

تعدد التجارب الموسيقيّة الملتزمة

يرى بحري العرفاوي، شاعر ملتزم، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الأغنية الملتزمة بدأت مع النضال اليساري ضد النظام البورقيبي، منذ حركة "آفاق" وخاصة بعد محاكمة سنة 1972، حيث كانت الأغنية معبّرة عن روح كفاحية وعن إيديولوجيا يسارية تهتم كثيرا بالشعارات والإيقاع الصّاخب، تعبيرا عن الغضب وتحريضا على التمرّد، ساردا أسماء بعض الوجوه الفنيّة وفرقها التي كان لها سبق غرس الموسيقى الملتزمة في تونس، من قبيل محمد بحر والهادي قلة، قبل أن يلتحق الراحل الزين الصافي والازهر الضاوي وفرق "البحث الموسيقي" و"الحمائم البيض" و"أولاد المناجم". 

 



في نفس ذات السياق، يؤكّد بحري العرفاوي أن فرقة "أصحاب الكلمة" لم تكن يسارية بقدر ما كانت معبّرة عن قضايا الفقراء والكادحين، ناقدة للوضع الاجتماعي وبخلفية وطنية اجتماعية غير موغلة في السياسي والايديولوجي، مضيفا أنّه فقط، مع بداية ثمانينيّات القرن الماضي، ظهرت فرق ذات خلفية اسلامية، على وجه الخصوص فرق "عشاق الوطن" و"أولاد الجنوب" و"المرحلة" و"الشمس الموسيقي"، كما ظهر فنانون ملتزمون خاصة جلال القارصي وتوفيق المستاوي وقد غنى هؤلاء جميعا وبكثافة أشعاره. كما غنوا لشعراء عرب ومن التراث الفلسطيني، مشددا على أنّ كل تلك الفرق الملتزمة زمن الراحلين بورقيبة وبن علي، كانت الصوت المعبّر عن قضايا الناس، وأنها كانت محل متابعة كبيرة من الجمهور، الذي كانت الالاف منه تتنقّل مسافات بعيدة لمتابعة عروضها الفنية.
 
من جهته، يذكّر عمّار القاسمي، موسيقي مؤسس في فرقة "الحمائم البيض" وعضو لجنة تنظيم المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، في تصريح لـ "عربي21"، بعراقة الأغنية الملتزمة لدى النخبة التونسية، مستدلا على ذلك بسبق الهاشمي بن فرج في التعريف بالفنان المصري الشيخ إمام، إذ كان هو من تنقّل له للقاهرة ونقله لباريس لتسجيل شريطه الغنائي الأوّل قبل أن يقوم باستقدامه مبكّرا لتونس، وهو ما جعل الشيخ إمام، حسب قوله، يذيع صيته في تونس قبل القاهرة، وقام الحبيب بلعيد باستمرار إذاعة الشيخ إمام في إذاعة تونس الدولية رغم كونها كانت ممنوعة من قبل الأنظمة الرسمية العربيّة.

الموسيقى الملتزمة وضعف "التاريخانيّة" الاجتماعيّة

يرى عادل بلكحلة، أستاذ علم الاجتماع وباحث الأنثروبولوجيا بالجامعة التونسيّة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّه من النقائص الكبرى التي تتسم بها الموسيقى الملتزمة في تونس، الأغنية على وجه التحديد بوصفها حركة اجتماعية موسيقية، والتي بدأت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، هو افتقادها لعامل مهم ومحدد في كل حركة اجتماعيّة، بمقياس عالم الاجتماع الفرنسي ألين تورين، الذي يعتبر التاريخانيّة عمادا رئيسا من أعمدة وجود الحركة الاجتماعيّة، مذكّرا في ذات الإطار بالمبادئ الثلاثة التي حدّدها تورين لكلّ حركة اجتماعيّة، والتي تسمح لها بالمرور من الهوية الدفاعية إلى الهوية الهجومية،  ألا وهي : مبدأ الهوية، مبدأ التعارض ومبدأ الكليّة (الوعي الجمعي الشمولي).

ويعتبر بلكحلة أن الموسيقى الملتزمة التونسيّة، على الأقل فترة ظهورها سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، رغم كونها كانت تملك هويّتها الخاصّة بها، وكانت تستجيب لمبدأ التعارض، من خلال وضوحها في معارضة نظام الحكم القائم بمصالحه ومؤسساته، إلاّ أنّها لم تكن تستجيب للمبدأ الثالث، وهو المبدأ الرئيس عند تورين، ألا وهو مبدأ الكليّة أو امتلاك الجذور التاريخية الضاربة في الأصل، حيث ظلّت الموسيقى الملتزمة، وعلى نبل فكرتها، فئويّة ولا تمثّل سوى شرائح اجتماعيّة معيّنة، ودون القدرة على تحوّز الجماهيرية بما يمكّنها من التأثير على الرّأي العام. ويسوق بلكحلة مثال غياب أغنية تتغنى بعلي بن غذاهم على سبيل المثال، أو تتحدث عن التغيير الثقافي الذي قام به أبو مدين الغوث، الذي كانت أغانيه تتحدث عن الفقراء وعن هيكلة العنصر الهلالي في العنصر البربري، وأنه على العنصر البربري النزول من الجبال التي لجأ إليها هربا من بني هلال، وأنه على بني هلال تعلم الفلاحة، مقابل منحهم عهدا بعدم تطبيق الحرابة عليهم، كما كان يطالب الفقهاء حينها، واعتبارهم عنصرا مهمّا في الأمّة المغربيّة الجديدة، التي تقوم على مبدأ "صحبة الفقراء"، مقابل الاستتابة المتمثلة في تعلم الفلاحة والاستقرار. ليخلص بلكحلة إلى الهوة السحيقة التي تفصل الموسيقى الملتزمة المعاصرة، التي لم تكن مرافقة لحركة اجتماعيّة فاعلة، عن الأغنية الصوفية الغوثية، التي رافقت من قبل الحركة الاجتماعية الغوثية، وكانت تتغنّى بالعمل والإنتاج والحبوب.

من جهة أخرى، يذكّر بلكحلة بموقف محمد المصمودي، أنثروبولوجي الموسيقى القائل بأنّ الموسيقى الملتزمة التونسيّة لم توجد أساسا بوصفها تعبيرة عن الحالة الاجتماعية التونسية، رغم كونها في جزء صغير تعبر عن ذلك، وإنّما وجدت استجابة سياسية أكثر منها اجتماعية، يعني وجدت من باب المناكفة بين المعارضات السياسية ليس إلاّ، بمعنى لم تكن نتاج حركة اجتماعيّة.

الانفصال التاريخي وعدم تمثل اللحظة الثورية

صرّح بلكحلة أنّه كان شخصيا، بوصفه باحثا انثروبولوجيا في الموسيقى الملتزمة، شاهد عيان على الحضور الباهت للجمهور، وطالب هيئة تنظيم المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة بمراجعة تقييمية للمضامين الفنية المقدّمة ومدى قدرة البرمجة الموسيقية للمهرجان على تقديم مضامين نوعيّة وجديدة، معتبرا أن أغلب الفرق الموسيقية التقليدية بقيت تجترّ منتوجها الذي أنتجته ثمانينيات القرن الماضي، واصفا الإدارة المشرفة على الدورة الثانية للمهرجان بالإدارة المنفصلة عن واقعها، متسائلا في ذات الإطار: " أين أبو القاسم الشابي، كيف لا يكون له مكان؟ ونفس الشيء بالنسبة لـ"صحبة الفقراء"، بما هي استجابة طبيعية والتقائية للحركة الاجتماعية الغوثية وليس بما يروّج عنها بأنّها حركة صوفيّة دينيّة، لماذا لم يتم الاستلهام من هذا الموروث الفني الملتزم؟".

جراء ذلك، لم يخف عادل بلكحلة خيبته جرّاء ما أسماه بزهد المضمون الفنّي المقدّم في المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة، في دورته الثانية، معتبرا أنّ المستوى العام لم يكن متميزا على مستوى تمثل الثقافة الشعبية بالمفهوم القرامشي، وأنّ الموسيقى الملتزمة في تونس لم تتمثل لحظة الثورة بعد وأنّها لم تستوعب لحظة الانتقال الديمقراطي بعد، مضيفا بالقول أن دراسته الانثروبولوجيّة للأغنية الملتزمة أبانت له وجود تكبر على ثقافتنا الشعبية وعلى ماضينا الثوري، متسائلا: "أين الأوبرا أو السنفونية التي توثق للحركة الغوثية بما هي حركة اجتماعية، غيرت وضع بلاد كانت ممزقة بفعل الصراع البربري – الهلالي، وكونت منهما أمة مغربية عربية جديدة. وبيّن بلكحلة أنّ قرامشي وفي نطاق دفاعه عن الثقافة الشعبيّة، كان يقول بأنّ" الكاثوليكية ليست بالضرورة رجعية بطم طميمها وأنه لابد من قراءة جديدة للدين الكاثوليكي "، وهذا يحيلنا على ضرورة تبني الموسيقى الملتزمة لنغميّة وإيقاع الموروث الشعبي والأهم من ذلك تبنى ثقافة الشعب بطريقة نقدية، يضيف بلكحلة.

جدل الاعتماد على مقامات تونسية 

يشير عادل بلكحلة إلى أنّ الموسيقى الملتزمة، بما هي مقامات وإيقاع، لم تكن تونسيّة، فلا موسيقى "أولاد المناجم" أو "البحث الموسيقي" أو باقي الفرق الأخرى، كانت موسيقاها تونسيّة، مؤكّدا رأيه من خلال المطالبة بالاحتكام في ذلك إلى مذكرات التخرّج وأطروحات الدكتوراه بالمعهد العالي للموسيقى، مضيفا بالقول أنّ المقامات لم تكن تونسيّة وأنه في أفضل الحالات كانت مقامات تونسية مشوّهة، هذا فضلا عن الآلات الموسيقية المستعملة والتي لم تستعمل "الزّكرة" أو "الطّبل" أو "القصبة" و"طرق الصيد (الصراع مع الأسد)"، القطعة الموسيقيّة العربيّة الوحيدة التي تحكي على صراع شاب حرم من الزواج من فتاة معينة، ففرّ إلى الصحراء فوجد أمامه أسدا، فطرق الصيد هو موسيقى بدون كلمات. يعني أنّ الموسيقى الملتزمة كانت منبتة عن واقع الأغنية التونسية ولم تكن منغرسة موسيقيا ولا منغرسة طبقيّا ولم تكن تحمل مشروع موسيقي كبير.

عكس ما ذهب إليه عادل بلكحلة، يؤكّد عمّار القاسمي، مؤسس في فرقة الحمائم البيض وعضو لجنة مهرجان الموسيقى العربيّة الملتزمة، في تصريح لـ "عربي21"، على أنه رغم كون الفرق الملتزمة غير ملزمة باستعمال المقامات التونسية، شأنها في ذلك شأن باقي الأغاني التونسية، التي لا تستعمل بالضرورة مقامات تونسية، فإنّها كانت بنت واقعها الفني والموسيقي.

ويستشهد عمار القاسمي بعدّة أمثلة تدلل على تونسية المقامات الموسيقية المستعملة، من ذلك أغنية "نخلة وادي الباي" لفرقة البحث الموسيقي، التي كانت ملتحمة بالواقع المحلي لمدينة قفصة، كما أنّ مقامها ولحنها كان تونسيين. 

وأشار إلى أن الأمر نفسه مع أغنية "كول البسيسة والتمر يا مظنوني"، للشاعر الراحل بلقاسم اليعقوبي، فالكلمة واللحن تونسيان والمقام تونسي وطريقة العزف تونسية، وكذلك أغنية "بابور زمّر شق البحر" للهادي قلّة، فالمقام تونسي وهو "مقام لحسين"، وهو مقابل لمقام البياتي الشرقي. نفس الشيء أغنية "في القلب جريدة" للهادي قلة وأغنية "لو كان ما يحبونا" للفنان حمادي العجيمي، و في معزوفة "حتى لين" للحمائم البيض، فالمقام كان "رصد الذيل"، وهو مقام تونسي.

ويستطرد عمار القاسمي ليشير إلى أن الإيقاع والمقام لم يكونا مهمين بالنسبة لفرقة "الحمائم البيض"، المهم كان ايصال الأحاسيس أكثر منها اهتماما بالمقام، وأنّ 40 بالمائة من معزوفات الفرقة، كانت معزوفات ملتزمة بخط تحريري معين. وكتفسير على ذلك، يقول عمّار أنّ الفرقة أنجزت موسيقى للمسرح، وبالتالي لم يكن ضروريا التفكير في المقام وفي الايقاع، باعتبار أنّ المشهد المسرحي هو الذي يصبح محددا لنوعية المقام أو الإيقاع.  نفس الشيء فيما يتعلق بمعزوفات تجربة السينما (مثلا فيلم "السيدة" أو الفيلم القصير "كسار الحصى" للمخرج محمد الزرن) أو المعزوفات التي كانوا يوظّفونها في تقديم مشاريع تخرج طلبة المعهد العالي للفنون الركحية والدرامية أو طلبة المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي. كما أكّد على أن عروض "ناي" فرقة "الحمائم البيض" كانت "قصبة" وليست "ناي"، ونفس الشيء بالنسبة لمعزوفات "طبوعات"، التي كانت بدوية تونسية من الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب الشرقي التونسي باستعمال "القصبة" وليس الناي.
.
تحديات في طريق الموسيقى الملتزمة

يرى شهاب قاسم، رئيس فرقة "عشاق الوطن"، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ تحدّيات كبيرة تقف اليوم عائقا أمام انتشار الموسيقى الملتزمة، أهمّها: "التكاليف المادية الباهظة التي يتطلبها تشريك طاقات مهنيّة مختصّة، تكون قادرة على تقديم مضامين موسيقية محترمة، قادرة على السمو بالأغنية من مربّع الابتذال أو التهريج "السياسي" الذي تمارسه بعض الفرق الأخرى، فالالتزام الموسيقي يحتم علينا الاجتهاد في تقديم مضامين موسيقيّة مهنية بعيدة عن المباشراتيّة السياسية".

 



ويضيف شهاب قاسم أنّ محدوديّة الإمكانات الماديّة تحول دون القدرة على تسجيل الأغاني أو المعزوفات الموسيقيّة في استوديوهات تضمن جودة الصوت والصورة المطلوبة، هذا فضلا عن التعتيم الاعلامي الذي تمارسه مجامع استلاب الوعي المعولمة، والتي تشجع على "السلعنة".

في المقابل، يرى بحري العرفاوي أنّ المشهد العربي، والتونسي على وجه الخصوص، أصبح مشهدا سياسيا طافحا غابت فيه الفنون والجماليات والإبداعات وحتى الروحانيات وصار الجميع يشتغلون وينشغلون بالسياسة، مضيفا أن المرحلة تحتاج من الشعراء والفنانين عموما فهم المشهد وتطوير ابداعاتهم بما يتماشى مع المزاج الشعبي وبما يجيب عن اسئلة الحاضر وهي بالتأكيد مختلفة عن أسئلة زمن الاستبداد، معترفا في الآن نفسه بوجود أزمة أزمة نص شعري، كما أن هناك أزمة ابداع بسبب طغيان السياسي على الفني. ويختم مداخلته بالقول أنه يتوقع "استمرار هذه الوضعية سنوات أخرى حتى تستقر البلاد سياسة واقتصادا وأمنا وحتى يقتنع الناس بكونهم يحتاجون فنا وشعرا وموسيقى من أجل إنسانيتهم التي أصابها "البرد" حتى كاد الآدمي أن يصير كما "خُشُبٍ مسندة وكما "أعجاز نخل خاوية".

من جهته، يرى عمّار الجماعي، شاعر ملتزم وباحث في الشعر الشفوي، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ "أزمة القصيد الشعري اليوم هي من أزمة الإبداع والأزمة شاملة، فنحن لم نشهد أصلا إنجاز ثوري جمالي يؤرخ لثورة 17-14، فنحن لم ننجز لا أغنية ولا أفلام ولا مسرحية تجعل من هذا الحدث الفذ عملا فنيّا يؤرخ له". مضيفا بالقول أنّه جار استعادة المنجز الفني القديم رغم أنّ الزمن غير الزمن والسياق التارخي والسياسي تغيّر كثيرا مقارنة بما كان عليه سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.

في ذات السياق، يرى الجماعي أنّ الحرية لوحدها لا تصنع الفن الملتزم وأنّ الفن بصبغته التحريضية دائما ما يصاغ تحت الدكتاتوريات، فيتحول إلى لغة الشعب للتعبير عن الأشواق والآمال، مضيفا أنّ الحاجة للأغنية الملتزمة، بشكلها الكلاسيكي على الأقل، لم يعد لها معنى، وأنّه "من المقرف فنيّا أن تظلّ بعض الفرق الموسيقية الملتزمة تشتغل على الشعاراتية والمباشراتية وعلى القصيدة المأدلجة ذات الإيقاعات الثورجية. لابد من تجديد المفهوم وسوف تتواصل أزمة الموسيقى الملتزمة ما لم تنبلج من ثناياها رؤية تجديدية. وما على المشتغلين على حقل الموسيقى والأغنية الملتزمتين من حلّ إلاّ تحويل مراكز اهتمامهم من الحرية، وقد أمنتها ثورة 17 كانون أول (ديسمبر) 2010 ـ 14 كانون ثاني (يناير) 2011، إلى كل ما هو انساني، من قبيل الأوبرات والمسرحيات والمشهد السينمائي، القادر على صياغة المعاني والتأريخ لهذه اللحظة التاريخية الفذة، باعتبار أن العمل الفني هو الثابت والباقي مندثر. سوف يعود للأغنية الملتزمة بريقها يوم تعود القصيدة الانسانية، العابرة للاديولوجيا وكنتونات الأحزاب المتناثرة، والتي تربينا على سماعها من بحري العرفاوي وبلقاسم اليعقوبي وآدم فتحي".

الأغنية الملتزمة الجديدة واستحقاق المشهدية والصورة

يرى عبد العزيز التميمي، صحفي ومؤسس لفرقة "عشاق الوطن" في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الأغنية الملتزمة هي أغنية المعنى الملتزم بالقضايا وأغنية المبنى، بما هي بعد جمالي وإبداع ضد القبح في التعبيرات الثقافية الرثة الغرائزية، وهي بصمة لا تمّحى من التاريخ، ويجدر بالمشتغلين عليها اليوم، الدفع نحو حالة جديدة من التفكير والإبداع، تكون فيها متساوقة مع ثقافة الصورة وثقافة الوسائط الاجتماعية الجديدة، مضيفا أن العصر اليوم هو عصر الصورة والسينما وفضاءات التواصل الاجتماعي، وهذا ما يفرض على الأغنية الملتزمة أن تتزحزح نحو المشهدية، على شاكلة الحضرة التونسية لكن مع تطوير المضمون طبعا.

 



في نفس الإطار، يؤكد التميمي على أن الموسيقى الملتزمة سوف تتواصل ما دامت المعاناة ورهانات القضية متواصلة، وكما كانت ناس الغيوان وجيل الجيلالة المغربية والشيخ إمام ومارسيل خليفة وفرقنا التونسية نقاط ضوء كبيرة ما قبل تاريخ 14 جانفي 2011، فإن الجيل الجديد من الأغنية الملتزمة على شاكلة عبد الرؤوف درّاجي، الرّابر والمغني والراقص الجزائري، المعروف بـ "سولكينغ بروك"، الذي استطاع بأغاني الريغي والراب والهيب هوب، وخاصة بواسطة أغنيته المشهورة LIBERTE، أن يلهم شباب الجزائر ويصير نشيد ثورتهم الأخيرة ضد الفساد والاستبداد، هو النمط الملتزم الأكثر انتشار اليوم في صفوف الشباب.
 
رغم كل الهنات الذاتيّة التي وقفت حجر عثرة أمام انتشار الموسيقى الملتزمة، تظلّ المعطيات الموضوعيّة، بالخصوص فشل مناويل التعليم والثقافة، الاسفين الأكبر الذي عطّل حركة الموسيقى الملتزمة، بما هي حركة اجتماعيّة فنيّة، وفق تصوّر عادل بلكحلة، أستاذ علم الاجتماع وباحث الانثروبولوجيا بالجامعة التونسيّة، الذي يرى أن فشل تلكم المناويل هو السبب الرئيس الذي أفقد التونسيين بهجة الحياة وأضعف حسهم بالجمال وحبّ الحياة، ممّا خلّف شعورا عامّا بالإحباط، مؤكّدا في ذات السياق، على حاجة التونسيين الماسّة إلى مشروع ثقافي حقيقي، لا إلى مشاريع حزبيّة "سكتاريّة"، تعيد تثوير الأغنية التونسية ، ولا تكون معادية لهوية التونسيين وثقافتهم، من أجل غرس أغنية ملتزمة فاعلة ومؤثرة في الحراكين الاجتماعي والسياسي.