أخبار ثقافية

في بستانِ الرّب..

الأزهار أقدم من الإنسان على الأرض- جيتي

تنبت الأزهار البريّة بين شقوق البلاط وأتساءل إن كانت حمقاء، أم أنها شجاعة حقا.

 

ما الذي يجعل الزهرة تنبتُ؟ النوّير، والأقحوان، وأزهار أخرى لا أعرفُ أسماءها. إنها تنبتُ وكأن هذا العالم غير قادر على الإيذاء، وكأنّه عالم جميل.

 

أم تراها تنبت لكي تمنح الجمال؟ وما الذي تحصل عليه في المقابل، مقابل حياة المنح الخالصة؟ لماذا تنبتُ الأزهار بكل هذه الثقة، وكأنَّ الأمر بلا خطورة؟


أنظر إلى الأزهار وأتساءل إن كانت انتحارية، أم أنها باسلة فحسب. أين يقع الخط الفاصل بين الحكمة والحماقة. هل يمكن أن تكون في الحكمة في ألا نوجد؟ وهل يمكن أن يكون الوجود في ذاته حماقة؟ وهل تملك النويرة حياة تخصّها، هل تنبت لأجلها هي، أم لأجل العالم؟


تنبت النويرة رغم أنَّ الأمر سينتهي بها مقطوفة، أو مدهوسة. وإذا لم يكن الأمر بهذا السوء فعلا، فسينتهي بها الأمر ميتة في كل الأحوال. حياتها قصيرة، يمكن أن تبدأ وتنتهي دون أن ننتبه، ولكنها تنبت على أيّ حال.


أنساق وراء أنسنة الأزهار، أتساءل عن موقفها من الحياة. ثمّ أتذكّر بأن الأزهار أكثر حرية من الإنسان، أن الزهرة مثل القصيدة، ليس لها "لماذا"، أنها تزهر لكي تزهر.


ثمّ أفكر، إن كان الأجدر بنا أن "نزهّر" الإنسان بدلا من أن "نؤنسن" الأزهار؟ ماذا لو كانت الحياة بهذه المجانية فعلا، ماذا لو كان المطلوب هو أن نتخفف من كل تلك الـ "لماذات" وأن نوجد فحسب.


تعيش الزهرة وتموت بلا أسى. وهي تنبت في أكثر الأماكن جنونا؛ بين بلاطتين، "في مفاصل صخرة"، بجانب لسان من القار. على حافة جدار مدرسة حيث تتحرك آلاف الأحذية الصغيرة، أسفل مرزاب صدئ، حول بئر معطّلة. تنبتُ مثل نغمة فارقة في عالم نشاز. كما تنبتُ في البراري حيث لن يراها أحد، ولكن ليس لديها مشكلة في ألا تُرى. ليس لديها مشكلة في أن توجد، أو لا توجد. إنها تنبت في ذلك الحقل القابع فيما وراء الميتافيزيقيا، حتى أصبح وجودها في ذاته ميتافيزيقيا، مثل آلهة الإغريق، مثل مخلوقات إيسوب، مثل حكايات هانس كرستيان آندرسن، مثل الملائكة والشياطين.


تنظر إلى الزهرة وتعرف بأنك لن تفهم الأمر أبدا، لا حياتها ولا حياتك. إنها أكثر مخلوقات الكوكب هشاشة، تأتي، في الغالب، غير مسلّحة بما يكفي لصدّ المخاطر. ولكنها متأهبة تماما لفعل الحُب، وكل ما تفعله هو جذب النحل، ومنح اللقاح، وضمان أن تنبت أزهار جديدة في السنة القادمة.


هشاشتها المروّعة قادرة على خدش خدّ الجدار. قوتها تكمنُ في تلك الهشاشة، في أن توجد رغم أنها معرّضة للقطف والقضم والتنكيل. أمل دنقل رأى في سلال الورد التي تملأ غرفته في المستشفى مسيرة كاملة من الإيذاء.


ولأن الأزهار أقدم من الإنسان على الأرض، فالأرجح أن لديها حكمة تتجاوز حكمته. سوف تضحك الأزهار عليّ مليا إذا سألتها كل تلك الأسئلة، تماما كما ضحكت على "ألس" في بلاد العجائب، وسألتها؛ أي نوع من الأزهار أنت؟ لا بدَّ وأنك عُشبة ضارّة!


في البداية تصل ألِس إلى الحديقة وتنظر إلى جمال ألوان البتلّات، وتشهق؛ أتمنى لو كان بإمكانكنَّ الكلام! تجيبها الأزهارُ فورا؛ نحن نستطيع الكلام، لكننا نفعل ذلك فقط عندما يكون هناك شخص يستحق كلامنا. 


ونحن حتى هذه اللحظة، غير جديرين بلغة الأزهار.


إنني أشعر بالسذاجة البشرية أمام زهرة، وأقف مفتونة أمام قدرتها الرمزية على ضخ الدلالات؛ مثل ينبوع سحري. عندما أطلق إمبرتو إيكو عنوان "اسم الوردة" على رواية تتحدث عن جريمة قتل في دير، كان يريد أن يحرر عنوانه من الدلالات كلها لأن الوردة لن تكفَّ عن توليدها، حتى يبدأ واحدها في الارتطام بالآخر.


في كوكب الأمير الصغير، كانت الوردة هي الحبيبة، وهي متطلبة ومغرورة، غير مكتفية بالحب الذي يمنحه لها الأمير حتى اضطر للرحيل. وفي قصص هانس كريستاين آندرسن، يموتُ طفل مريض، فتعبر أمه أودية الموت، تغني كل الأغنيات التي تعرفها لعجوز سوداء الثياب، ثم تحتضن زهرة شوكية تموت من البرد، وتعطي عينيها لبحيرة تحب جمع اللؤلؤ، وتمنح شعرها الأسود الطويل للدفّانة العجوز.. حتى تصل إلى مشتل الموت الكبير، وتعثر على نبتة زعفران سماوية وتميّز فيها خفقات قلب ولدها، وتلتقي بالموت؛ بستانيّ الرب، لتجادله بشأن استعادة حياة طفلها الذي تحول إلى زهرة..


ولكنها في النهاية ترضخ للمشيئة، فتقول:


"خلّص طفلي من كل هذا البؤس، احمله بعيدا، احمله إلى ملكوت الله".


وبخلاف نرسيس الذي كان تحوّله إلى زهرة نرجس عقوبة على عشقه لذاته، كان تحوّل الطفل المريض إلى زهرة هو التحرر من وبال الوجود.


تتصالح الزهرة مع الموت على نحو لن نتعلمه أبدا. ولكن حكاية "هانس كرستاين آندرسن" تذهب أبعد في القول، فالموتُ هنا يلقننا حكمته:


"أنا بستانيّ الرب، أنا الذي آخذ أزهاره وأشجاره وأزرعها في حديقة الجنة الكبيرة في البلاد المجهولة. أما كيف تنمو، وكيف الحال هناك، فلا أجرؤ على إخبارك عنه!".


أتساءل إن كان هو البستان نفسه الذي أخبرنا عنه مظفر النواب: "تعال لبستان السرّ أريك الرّب على أصغر برعم ورد.. يتضوّع من قدميه الطيب"


أتسمّر مليا أمام الأقحوانة البازغة بين شقوق البلاط، وقريبا جدا من إطار سيارتي المركونة، عرضة للدهس والتنكيل، وأفكر؛ هذا بستانُ الرّب، بستانُ السرِّ، جبروت الهشاشة، الحياة متعالية عن أسباب الحياة، الحياة في عنادها البدائي، شهوةُ المنحِ والحُب. أيُّ بسالة يا زهرة الأقحوان، أيُّ بسالة؟