أخبار ثقافية

علوم الصحراء: كيف أجرى البدو تحليل الـDNA؟

لم يكن يخلو مجتمع البدو من المعارف، بل إن بعض هذه المعارف سيصيب الباحث بالدهشة- جيتي

تقوم حياة المجتمع البدوي -قبل بروز الدولة الحديثة- على قاعدتين تشكلان أساس الحياة في الصحراء، وهما الغزو والترحال. وهذه الحياة تنشط في ظل اللادولة وغياب الأمن والاستقرار، وإن بقي البدو أحرارًا وفي مأمن من قمع الدول وبطشها فإنهم فقدوا الكثير من مميزات المجتمع المدني؛ مثل غياب المدارس والتعليم لسنوات طويلة، حتى تمكنت الدولة الحديثة من فرض نفسها، وأجبرتهم على الدخول ضمن منظومتها.


ولكن يبقى السؤال: ما جدوى القراءة والكتابة وسط مجتمع تقوم حياته على القوة ومحاولة البقاء حيًّا ضمن دائرة من الصراع المستمر وتنظمه منظومة من العادات والأعراف المتوارثة التي لا تحتاج إلى تدوين ما دام البدوي يعيش داخلها ويكررها في حياته؟ وإن كانت القراءة والكتابة هي مفتاح المعرفة في المجتمع الحضري، فهل هي كذلك بالنسبة لأبناء الصحراء؟ وهل انعدمت المعارف والعلوم عند البدو؟


إنّ البحث والتعمّق في تراث البدو سيفضيان إلى نتيجة مفادها أن المجتمع البدوي لم يكن يخلو من المعارف، بل إن بعض هذه المعارف سيصيب الباحث بالدهشة بسبب دقتها والنتائج التي تؤديها مثل قدرة البدو على تحديد نسب الولد ورده إلى أبيه (نسب الحيوان أو الإنسان) الذي فقده من سنوات طويلة. وذلك قبل أن يكتشف العالم الحديث وسائل كشف النسب وتحليل الـ DNA بمئات السنين.


حينما أصدر محمد أبو حسّان كتابه "تراث البدو القضائي" عام 1974 كان يهدف إلى تقديم دراسة أنثروبولوجية توثّق الممارسة القضائية عند بدو الأردن التي كانت تحظى بالاعتراف الرسمي من قبل الدولة ضمن قانون العشائر وقانون الإشراف على البدو، فقد كان البدو الرحّل مستثنيين من تطبيق أحكام القانون المدني. لكنه وجد نفسه يضع دراسة شاملة للعادات والأعراف البدوية التي تشكّل مؤسسة القضاء عمودها الفقري، كما أن الدولة قامت بإلغاء هذه القوانين بعد عامين فبدأ يعي أهمية الدراسة الميدانية التي قام بها وأنها ستكون أهم وثيقة تؤرخ لمؤسسة القضاء البدوية في الأردن والبلاد العربية عامة.


كما أن تعدّد خبرات أبو حسّان وتنقّله بين عدة وظائف عزّزا قدرته على التعمّق في دراسته وإجراء المقارنات التي تناولت الممارسة القضائية من كل جوانبها. فهو باحث أنثروبولوجي وضابط أمن برتبة عميد عمل مديرًا لشرطة معان والبادية الجنوبية، وهو محام دارس للحقوق أيضًا وعمل قاضيًا وعضو محكمة التمييز والعدل العليا، وشغل منصب النائب العام لدى محكمة الجنايات الكبرى، وحاصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والمقارنة، عدا عن أنه دارس للطب الشرعي والعلوم الجنائية والمختبرات الطبية. الأمر الذي أتاح له الاختلاط بشيوخ البدو وقضاتهم وتسجيل تراثهم، وكذلك عقد مقارنات متعددة بين القضاء البدوي والقضاء المدني والقضاء الإسلامي، وكذلك المقارنة بين عادات وأعراف القبائل البدوية المختلفة وأساليبها في التقصي والتحقيق في الجرائم وتقديم الأدلة القضائية التي تدين المتهم أو تبرئه.


يكشف أبو حسّان أثناء كل ذلك عن معارف البدو التي تلبي حاجة الحياة في الصحراء بعيدًا عن القراءة والكتابة، وهي معارف تصيب القارئ بالدهشة تتعلّق بطرائق إثبات النسب (نسب الإنسان أو الحيوان) وهو ما يسمى بالقيافة، وكذلك بآليات قص الأثر والمعلومات التي يجنيها البدوي من ذلك وفائدة ذلك في القضاء البدوي. فالبدوي المختص بقص الأثر يستطيع بسهولة أن يميّز طبيعة الأثر؛ هل هو لإنسان أو حيوان؟ كما يميّز طبيعة الحيوان الذي ترك الأثر (إبل أو خيل أو ذئب أو أرنب). وإن كان هذا الأمر عاديًا بسبب اختلاف أثر هذه الحيوانات عن بعضها فإن الأمر يخرج عن السياق العادي حينما يكتشف القارئ أن البدو يميزون أثر الجمل من الناقة بسبب فرق ثقل الخطوة على الأرض أثناء المسير بين الجمل الذي يدب على الأرض دبًا وبين الناقة التي تسير بخفة أكثر.


كما أنهم يميزون الناقة صاحبة الأثر فيما إذا كانت حاملاً أم لا؟ ويفرقون كذلك الجمل الأعور من سليم النظر من خلال اتجاه السير إذ يميل الأول إلى الانحراف في مسيره. وإذا كانت الذئاب من أكثر الأخطار التي تحدق بماشية البدوي فإنه اعتاد أن يميّز خطوة الذئب الذاهب إلى المرعى من خطوة الذئب الذاهب إلى النوم اعتمادًا على درجة شدة الخطوة.


وإن قُتل بدوي في الصحراء ولم يُعرف الفاعل فإنه يتتبعون أثر القاتل حتى يحددوا قبيلته ويأخذوا الثأر منها. ويفرق البدوي آثار الأقدام الغريبة التي تدخل حدود القبيلة؛ فقد استطاع القصّاص حمود الزوايدة تتبع آثار أربعة أشخاص غرباء تجسسوا على حدود القبيلة وتتبعهم مسافة 30 كم وبعد أن تم القبض عليهم تبين أنهم كانوا في مهمة استطلاع بقصد الغزو. ومن المفارقات التي يرويها أبو حسّان عن تمييز عشيرة الزوايدة لآثار الغرباء أن مهندسًا زراعيًا من مصر كان يعمل في مشروع الديسة مطلع السبعينات أخبره أن الزوايدة -وبدو المنطقة عمومًا- يعرفون أثر قدمه رغم أنه يغيّر حذاءه باستمرار، وأنهم يجدونه بسهولة أينما كان حينما يبحثون عنه دون أن يسألوا عنه أحدًا!


وحدث أن لاحظ أحد شيوخ عشائر السعيديين أثر قدم غريبة عن قبيلته، وصادف أن مرت طائرة هليكوبتر إسرائيلية في المنطقة بعد فترة، فعاد إلى تتبع الأثر حتى وصل إلى البيت الذي نزل فيه الضيف، فاستفسر عن هوية الضيف فقال له إنه من قبيلة بني صخر يبحث عن ناقة ضائعة. ولكن لهجته لم تكن لهجة بني صخر، إضافةً إلى أنّ ثيابه كانت مجعلكة – دلالة على أنه كان يركب سيارة أو طائرة- فأخذه إلى المخفر ليتبيّن أنه نزل من الطائرة الإسرائيلية.


ويتمتع البدو بذاكرة ثاقبة؛ فقد حدث في قبيلة بدوية أن قام شاب من أحد أفرادها بزيارة حبيبته ليلاً، وعلى سبيل الاحتياط أخذ معه حذاء آخر كي لا يتمكن أهلها من تتبعه. وبالفعل نجحت الخطة وأفلت من أهلها لكنه بعد عام عاد إلى انتعال حذائه القديم؛ فتمكن أحد أقارب الفتاة من تمييز الأثر ومطابقته مع الأثر الذي كان يبحث عن صاحبه، واستطاع الشاب الإفلات من قبضة أهل الفتاة بعد أن حلف الأيمان المغلّظة بأنه اشترى الحذاء حديثا من تاجر مجهول.


وإذ كان البدو يميزون جنس الغريب من أثر قدميه عن بقية أفراد القبيلة، فإن هناك أشخاصا وقبائل نبغوا في تحديد نسل الحيوان والإنسان من خلال الأثر حينما يختلط الأمر ويحدث النزاع حول الأصل.  فقد باع القصاص ابن شمعوري من عشائر السعيديين حوارًا (الحوار صغير الجمل) إلى أحد البدو وحدث أن سُرق الحوار بعد شرائه، وبعد عدة سنوات اشتبه المشتري بوجوده عند أحد الأشخاص وحدث خلاف بينهما؛ فقررا العودة إلى ابن شمعوري ليحدد هوية الحوار الذي أصبح جملاً. فطلب الأخير أن يوضع الجمل مع مجموعة من الجمال الموجودة في أحد مخافر الشرطة وتركه يختلط بها، ثم راح يدقق آثار الأقدام وحينما وصل إلى أثر أحد الجمال صاح قائلاً (هذا ابن قميزة) في إشارة إلى الحوار الذي باعه للرجل الأول، وكان الأثر للجمل محل الخلاف.


ولقد اشتهر أفراد قبيلة (المرّي) بالقدرة الفائقة على تحديد النسب حتى قيل إنهم من أبناء الجن لا الإنس بسبب مهارتهم العالية في رد الأصول. فقد حدث أن ضاف أحد أبناء هذه القبيلة صديقًا له من قبيلة أخرى، ولكنه هذه المرة رفض أن يتناول الطعام عنده، بعد أن رأى زوجته وقارن ملامحهما وأثر قدميهما، وحينما استفسر المضيف عن السبب، قال المري إنه لا يأكل من طعام شخص تزوّج من أخته. وبعد التحقيق والسؤال تأكد المضيف بأن والده كان على علاقة غير شرعية مع والدة زوجته؛ فطلقها.


وكثيرًا ما كان يُدعى أبناء هذه القبيلة لحل قضايا تحديد النسب حينما يضيع طفل ويعتقد أهله أنهم عثروا عليه بعد سنوات طويلة ويدعي الشخص الذي عثر عليه أنه ابنه الشرعي. ففي عام 1945 ادعى أحد الشرارية بأبوة فتاة كانت تعيش تحت رعاية أحد أبناء قبيلة شمّر واتفق الطرفان على تحكيم المرية في القضية، وتم ذلك في مدينة سكاكا السعودية؛ فقام الأمير عبدالرحمن السديري باختيار ثلاثة مرية من جهته وقام الشراري باختيار ثلاثة وقام الشمّري باختيار ثلاثة أيضًا. وقام الجميع بمعاينة أثر قدمي الفتاة ومقارنتها بأثر الشراري والشمري بشكل منفرد وجميعهم أعطوا نتيجة واحدة وهي أن الفتاة ابنة الشراري. فقام الأمير برد الفتاة إلى أبيها.