كتاب عربي 21

صفقة القرن: المعركة الخطأ

1300x600

لا حديث اليوم في الإعلام العربي والعالمُ منشغل بفيروس كورونا؛ إلا عما يسمى "صفقة القرن"، وهو المصطلح الذي استقرّ عربيا لتوصيف المشروع الأمريكي الجديد المقترح لتصفية القضية الفلسطينية. لا يبدو مضمون الصفقة الذي سنأتي إليه لاحقا أهم ما في الصفقة حسب رأينا، بل يبدو التوقيت ووزن الفاعلين أهم ما يميز هذا الحدث الذي يبدو حدثا تاريخيا في مسار الصراع العربي الصهيوني والإسلامي الصهيوني، منذ احتلال الأرض الفلسطينية في 48.

التوقيت هام جدا، وهو شديد الارتباط بوزن الفاعلين الرئيسيين في المشهد المحدد لطبيعة الصراع حول القضية الفلسطينية. من جهة أخرى، لا تبدو محددات مخارج هذا الصراع مقتصرة على مجال الأرض المحتلة، بل يمكن القول اليوم على ضوء مآلات الربيع العربي إن مصير القضية الأمّ لا يتحدد داخلها بل خارجها.

صفقة القرن

ليست الصفقة في البداية مشروعا نزل من السماء، بل هي امتداد طبيعي لمسارات التفاوض بين طرفي النزاع وبين رعاة هذا التفاوض، وعلى رأسهم مجموع الدول العربية من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى. لا يمكن بذلك فصل صفقة القرن عن اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عصر الرئيس السادات، ولا يمكن فصلها كذلك عن مؤتمر أوسلو الشهير ولا عن بقية القرارات والمؤتمرات التي سجلت تاريخ الصراع بين دولة الاحتلال من ناحية والكيانات الرسمية العربية من ناحية أخرى.

 

يمكن بذلك فصل صفقة القرن عن اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عصر الرئيس السادات، ولا يمكن فصلها كذلك عن مؤتمر أوسلو الشهير ولا عن بقية القرارات والمؤتمرات

بناء عليه، فإن الصفقة مرحلة متأخرة من مراحل التفاوض حول الأرض وحول مصير الشعب الفلسطيني المستثنى من التفاوض. فإذا كان موقف الأنظمة الرسمية بقيادة جامعة الدول العربية واضحا يتأسس على التفريط في الحق الفلسطيني مقابل المحافظة على العرش وعلى السلطة، فإن موقف الشعب الفلسطيني صاحب القضية الأول يختلف تماما عن الموقف النظام الرسمي. لم تكن الانتفاضة الفلسطينية عبر مختلف مراحلها في مواجهة الكيان الغاصب إلا التعبير الأوضح عن موقف الشعب من قضيته التي يتاجر بها السماسرة العرب، فقد قدمت فلسطين في الضفة والقطاع قوافل الشهداء من أجل التأكيد على أن مطلب التحرير الكامل للأرض هو مطلب غير قابل للتفاوض.

الجديد في الصفقة اليوم يتمثل في مطلب التنازل الرسمي عن ثوابت القضية، وهو مطلب القدس وحق العودة والمستوطنات ونزع سلاح المقاومة. حسب المشروع الجديد، ستصبح المستوطنات جزءا من حدود الكيان، وستصبح القدس عاصمة موحدة لدولة الاحتلال، وستسلم المقاومة في غزة سلاحها لتصبح المنطقة أرضا منزوعة السلاح، كما سينتهي الحق الفلسطيني في العودة الذي سيشمل كل اللاجئين. تفرض الصفقة الجديدة كذلك على أهل الأرض الاعتراف بدولة الاحتلال، كما تفرض على الدول العربية الاعتراف بدولة الكيان والتطبيع الكامل معها.

هكذا تنتهي القضية الفلسطينية بمباركة الأنظمة العربية، وهي التي تعتبر آخر معارك الاحتلال التي عرفها التاريخ المعاصر، بل وتنتهي بنسف كامل لحقوق الشعب الفلسطيني التي ناضل لأجلها ودفع آلاف الشهداء منذ حوالي سبعين سنة.

التوقيت والفاعلين والسياق

تأتي صفقة القرن في أوج الفوضى والحروب التي تضرب المنطقة، والتي تفجرت أو فُجّرت ردا على ثورات الربيع. فالمشهد المصري يلخص الحالة العربية بعد الانقلاب على ثورة يناير وقتل الرئيس المنتخب ديمقراطي،ا وتثبيت الحكم العسكري الذي ثار عليه المصريون وبشكل أشد بشاعة. أما سوريا، فقد حولت العصاباتُ الطائفية البلدَ إلى مذبحة مفتوحة تعجز كل كتب الأرض عن وصفها. أما بقية الدول العربية في المغرب العربي وفي الخليج على السواء، فهي اليوم في أضعف أطوارها بعد القمع الذي تعرضت له شعوب هذه البلدان بسبب الثورات أو لسبب آخر، وهو الأمر الذي يجعل من الفاعل العربي أضعف الفواعل في المشهد الإقليمي.

 

تأتي صفقة القرن في أوج الفوضى والحروب التي تضرب المنطقة، والتي تفجرت أو فُجّرت ردا على ثورات الربيع

من جهة أخرى، تهرول دول عربية كثيرة إلى التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني. فحتى المملكة العربية السعودية بثقلها الجغرافي والتاريخي والعقائدي؛ لم تعد تخفي علاقتها المتنامية مع دولة الكيان على كل الأصعدة.

أما اللاعب الأساسي في المشهد العربي ممثلا في شعوب المنطقة؛ فإنه رغم محافظته على رفضه المطلق لكل أشكال التطبيع، إلا أنه يقف مكتوف الأيدي وعاجزا عن الفعل المؤثر فيما يُعقد على حسابه من صفقات. إن تجريد الجماهير العربية من القدرة على الفعل السياسي بسبب الطبيعة القمعية للأنظمة الاستبدادية قد حوّلها إلى كتل صماء مفعول بها؛ لا يقيم لها المفاوضون وزنا يذكر.

في هذا السياق المحترق، وبعد تمكّن دولة الكيان من فرض نفسها ومشاريعها على الأنظمة الرسمية العربية مستفيدة من حالة التناحر والصراع المعلن والخفي بين الأنظمة العربية، يكون توقيت صفقة القرن أفضل توقيت لتصفية ما تبقى من التركة الفلسطينية.

من جهة أخرى، كانت ثورات الشعوب الأخيرة، وخاصة في مصر وسوريا، إنذارا مبكرا عن طبيعة التحولات التي تعرفها البنية الاجتماعية والسياسية العربية، حيث توشك أنظمة سايكس بيكو على السقوط، وهو ما يشكل تهديدا وجوديا لدولة الكيان. لقد كانت السلطة السياسية العربية في حقيقتها حارسا أمينا للكيان الصهيوني ولأمنه القومي، خاصة في مصر وسوريا والأردن، أو ما يعرف بدول الطوق، وهو الأمر الذي جعل الكيان المحتل وعرابه الدولي يحافظ على نسق الصراع بين الفواعل في الأرض المحتلة. لكن حين انفجرت ثورات الشعوب وصارت تمثل تهديدا جديّا بدخول المنطقة إلى طور جديد يوشك على قلب المعادلة وتغيير موازين القوى، تدخلت القوى الدولية معلنة عن صفقة جديدة.

 

حين انفجرت ثورات الشعوب وصارت تمثل تهديدا جديّا بدخول المنطقة إلى طور جديد يوشك على قلب المعادلة وتغيير موازين القوى، تدخلت القوى الدولية معلنة عن صفقة جديدة

هذا الوضع الجديد هو الذي عجّل بتفعيل صفقة القرن، حيث يستفيد الكيان المحتل من حالة الضعف والتشرذم العربية، ويحصّن نفيه من هزات إرتدادية جديدة قد تجعل من مشروع الصفقة أمرا لاغيا.

أرض المعركة الخطأ

تأسيسا على ما تقدم، فإن مصير القضية الفلسطينية لا يُرسم في الأرض المحتلة، وإن كانت هذه الأرض جزءا أساسيا من المعركة. إنه يتحدد في كل الميادين والساحات والعواصم العربية، خاصة تلك التي رفعت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وعيا منها بأنّ الطريق غلى تحرير القدس واستعادة الأرض يمرّ وجوبا عبر تحرير الإرادة العربية من قبضة الاستبداد.

ما كان يمكن طرح صفقة القرن ولا حتى مجرد الحديث عنها لو كانت الشرعية لا تزال قائمة في مصر كما لا تزال قائمة في تركيا، وما كان يمكن التطبيع مع الكيان الغاصب لو كانت الشعوب العربية هي من يختار حاكمها ولا يفرض عليها فرضا بقوة السلاح والانقلابات.

إن فصول المعركة الحقيقية لتحرير فلسطين إنما تدور فصولها اليوم في ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان ومصر؛ من أجل التحرر من الطغيان وتحقيق سيادة الإنسان العربي على أرضه والتحرر من أغلال القمع والعبودية وحكم العسكر. هذه هي أرض المعركة التي تستهدف تحرير الإنسان العربي المكبّل بأغلال الاستبداد والقمع؛ لأن كسر هذه الأغلال هي الخطوة الأولى لتحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر.