كتاب عربي 21

تأمّلات من أحاديث البِشْري

1300x600
حظيت مصر في النصف الأول من القرن العشرين بحيوية اجتماعية واسعة، ما أثّر على التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي في مصر تلك الفترة، وكان من نتاجها بزوغ القوة الناعمة لمصر طوال النصف الثاني من القرن الماضي.

كان الجيل الذي خرج بعضه من مصر إلى الخليج تحديدا وإلى دول العراق والشام، هو الجيل الذي قاد نهضة حضارية في كل المنطقة، على المستوى الثقافي والتعليمي والتشريعي، ولولا آثار النظم العسكرية التي افترست المنطقة عقب تصاعد موجات الاستقلال، لكان للوطن العربي والإسلامي شأن آخر، لكن الاحتلال الأجنبي آثر أن يرث تركته أكثر المكونات الاجتماعية فشلا في الإدارة على الإطلاق، ثم بدا أن قادة هذا المكون الاجتماعي من أحط شخوصه رغم ما يزخر به من شخصيات عالية الكفاءة والوطنية.

ما يستدعي هذا الحنين إلى ماضٍ تولى؛ تكرار الاستماع إلى الشخصيات الثقافية والعلمية من هذا الجيل، سواء في اللقاءات المسجلة أو باللقاء المباشر. ومن علامات هذا الجيل، أستاذنا الكبير المستشار طارق البشري، الذي لا تُمل مجالسه، ولا تُسأم كُتُبه.

تطرق الحديث ذات ليلة إلى حال المجتمع في فترة نشأته، فروى أن طلاب المدرسة قرروا في يوم أن يتظاهروا ضد الإنجليز، فأراد أحد المعلمين أن يثنيهم عن التظاهر رأفة بهم، فلم يستجيبوا له، فذهب إليهم "ناظر المدرسة"، وكان مُهابا بين الطلاب، فارتدعوا عن التظاهر، فتحدث معلمهم في اليوم التالي غاضبا لأنهم تراجعوا عن التظاهر "خوفا من الناظر" لا بسبب قناعتهم، وأنه لا يشرفه أن يُدرِّس جبناء. بعدها تدخّل الناظر ليتدارك الموقف، فقال إنهم لم يتراجعوا خوفا منه، بل تقديرا من الطلاب له كأب لهم.

هذه كانت طبيعة المعلمين في ذلك الوقت، وهكذا تربى هذا الجيل، فكان من ثمرته أن امتنع البشري، خلال عمله في مجلس الدولة، عن قبول تعيين شخص مصحوب بتوصية من رئيس الجمهورية، لعدم كفاءته الفنية، ما تسبب في عدم رئاسته لواحدة من أهم جهات التقاضي والفتوى والتشريع في مصر.

نبعت هذه الحالة العلمية والمهنية، فيما بعد، من استشعار "قيمة حمل الرسالة"، فكان المعلم يحدثهم بأنه "يربي أجيالا"، فترسخ لديه المفهوم الرسالي في وظيفته، الأمر الذي جعله يحتجب عن الإعارات للعمل في دول عربية، بعدما لاحظ أن القيم تخفت شيئا فشيئا أمام بريق المال، فامتنع عن السفر الطويل بقصد التكسّب، ثم استشعر الحرج من دوام امتناعه، وخشي أن تهتز صورته أمام أقرانه بسبب رفضه لـ"النعمة"، فتعلل برعايته لأبنائه، وظل مقدرا لقيمة القضاء ووجوب ابتعاد مُصدر الأحكام عن أي مؤثر على حكمه، أو أي شيء يحط من قيمة القاضي وقدره.

كان من ملامح هذه الفترة كذلك الالتزام بالقواعد العلمية في كل مناحي الحياة، دون تعصب للأفكار. فمما يرويه الحكيم البشري نقلا عن أحد الكبار، أنه لما التحق بالقضاء، تهيّب الفصل في المنازعات، فذهب إلى عبد العزيز باشا فهمي، وهو أول رئيس لمحكمة النقض المصرية، وكان من دعاة تغيير الحرف العربي، فلا يمكن تصنيفه كأحد الدعاة إلى المدرسة الدينية التقليدية، لكن ذلك لم يمنعه من التزام الأمانة العلمية، فلما ذهب إليه ذلك الشاب، سأله عبد العزيز باشا: "هل قرأت كتاب الموافقات للشاطبي؟"، فأخبره أنه لم يقرأه، فقال له فهمي: "كيف ستحكم وأنت لم تقرأ الموافقات؟ اذهب واشتر الكتاب وقم بمذاكرته، ثم عُد إليّ بعد ثلاثة أشهر"، وهو ما كان.

يستطرد الحكيم البشري فيقول إنه قرأ الكتاب كذلك، وكان البشري في ذلك الوقت يساريا، لكنه قرأه وقال إنه ضبط له منطق الأحكام، واستحكم الضبط بعد قراءة الفروق للقرافي المالكي.

هكذا كانت الأمانة العلمية، وهكذا كان التواضع العلمي وعدم المكابرة أمام الحقائق، ولم تكن هناك غلبة للتعصب الفكري إزاء مسألة ما كما نشهد في هذه الأيام. ولا أدلّ على المفارقة بين هذا الماضي العطِر، وبين الواقع الرديء من قيام قادة انقلاب تموز/ يوليو الثاني منتصف 2013، بحظر تداول كتب للشيخ القرضاوي، وهو من هو بين أقرانه، وقيام البعض بالمبالغة في التزلف إلى النظام الجديد بحرق كتبه مع كتب الأستاذ قطب، في مشهد يحاكي ظلام وجهل وكراهية العصور الوسطى.

مقارنة هذه الفترة بالوضع الراهن تصيب بالإحباط، فلم تعد هناك قيم تشاركية، وحتى القيم الذاتية الصالحة تضاءلت أمام الرغبة في اقتناص المال. صحيح أن النظم السياسية المتعاقبة صنعت ذلك بإفقار المجتمع أو بتعمد إذلاله في حياته اليومية، وتقوم النظم السياسية بذلك على نطاق واسع، وبرغبة حثيثة في إعلاء الانعزال والأنانية، وتوجه كل فرد نحو الحلول الفردية بدلا من الحلول الجماعية، بحسب تعبير أستاذنا البشري، ولم يكن نجاح ذلك ممكنا إلا بعد تغييب الدور المجتمعي وتجفيف منابع التنظيمات الأهلية التي تضطلع بالحفاظ على قيم المجتمع ونقلها من جيل إلى آخر.. لكن رغم هذا الدور الحكومي، لا يمكن تبرير انصياع المجتمع لعملية الانتقال القيمي، خاصة أنه انتقال للأسوأ لا الأفضل.

لا أحسب أن هناك مبالغة في قول أن المستشار البشري "لا تُمل مجالسه، ولا تُسأم كُتُبه"، فهو أحد رواد الفكر والقانون والتاريخ الحديث في أيامنا، وقد ألزم نفسه بالبحث والتقصي قبل أن يتكلم أو يكتب. ولا تجده رغم مكانته الاجتماعية إلا شديد التواضع والتهذيب في معاملته، وفي كتاباته، وفي استماعه لمعلومة جديدة أو محاولة بحثية جادة، وهذه ثمرة أخرى من ثمار النشأة الطيبة.. والرجاء من الله أن يديم علينا بقاءه وعافيته بيننا، ناصحا ومهذِّبا ومعلما.