قضايا وآراء

25 يناير كأداة تعريف حضاري

1300x600
لا يمكن أن نتخيل مدينة مثل لندن من دون نهر التيمز أو ساعة بيغ بين، أو أن نتخيل روما من دون المعكرونة، أو باريس من دون برج إيفل. فللمدن معالم، وللشعوب هويات لأن البلدان تعرف بأهميتها السياحية والجغرافية والسياسية. وهي أدوات تعريف تخاطب بها نفسها والعالم، وتكتشف به خصوصيتها. ومصر كبلد مهم جغرافيا وسياحيا وسياسيا كانت صيغ تعريفة مفرقة بين النيل والتاريخ والمشاعر والحنين والآثار. حبات عقد منفرط؛ كل قطعة فيه جميلة لكنها في منفصلة عن القطعة الأخرى.

مصر بلد ذو تاريخ يمتد على مدار آلاف السنين، لكن ليس لأهلها ملبس وطني مثلا.. يحتفي أهلها بالطعام والشراب في المواسم والأعياد وفي كل وقت وحين، ولا تجد مطاعم تعبر عن هذه الهوية في عواصم العالم على غرار الشعوب الأخرى.. وحديث كثير عن السياسة من دون القدرة على ممارستها بشكل فعال.

بقي هذا الوضع حتى حدث زلزال 25 يناير عام 2011، حينها اكتشف المصريون هويتهم، وغشي جلال الحدث أبصار أعدائهم حتى اليوم، فلا يستطيعون مواجهة الثورة وجها لوجه، فيوعزون لصبيانهم في وسائل الإعلام ليهاجموها ويطلقون أزلامهم من الأجهزة الأمنية للقبض على كل من له صلة بها، بينما هم يمدحونها في الخطب الرسمية، ليكتسبوا منها شرعية شكلية مزورة.

في ذكراها التاسعة، نقترب من اكتمال عقد كامل على اندلاع أهم ثورة مصرية في التاريخ الحديث والمعاصر، وهي فرصة لمراجعة الأحدث والمواقف والشخصيات، وفرصة لإعادة تقييم ما حدث، متجاوزين التعريف السياسي المباشر لخروج الناس في الشارع. فقد خرج الآلاف ويخرجون كل يوم في عواصم شتى ولأسباب متباينة؛ الفارق في يناير في مصر هو الروح، وهو أمر لمسه كل من شهد هذا المشهد العظيم في التحرير أو تابع تفاصيل ما يجري.

لقد وصلت يناير ما انقطع بين المصريين وبين العالم، وأصبحت هناك هوية حضارية جديدة ولغة يخاطبون بها العالم، بغض النظر عن الانتصار المرحلي للثورة المضادة. والعالم هنا يعني الشعوب وقيمها ومنجزاتها، وليس حكوماتها وأجهزتها الأمنية. فأصبحت هناك لغة يتحدثها المصريون مع أمريكا مارتن لوثر كنغ، وبريطانيا جورج برنارد شو، وفرنسا روسو، وهند غاندي، وجنوب أفريقيا مانديلا.

كانت كل المقدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر قبل 2011 تشير إلى أننا مقبلون على كارثة ما، نتيجة الفساد المتراكم لعقود. وكان القوس مفتوحا ليشمل حربا، أو أزمة اقتصادية طاحنة أو صراعا داخليا بين أجنحة السلطة، وهي نتيجة منطقية لسياسات معروفة. وما حدث واقعيا هو أن انقلب هرم السلطة والنفوذ لفاصل زمني قصير، أثبت فيه المهمشون والفقراء أنهم أصحاب قيم شرف وحرية تفوق مدعي الفضيلة والنفوذ ممن كانوا يعتلون قمة هذا الهرم في الماضي. وسرعان ما عاد كل شيء لمكانه السابق، لكن لم تستطع أساليب المحو المكثفة لمدة سبع سنوات أن تزيل آثار هذين العامين من الحرية النسبية.

وحين يذهب الآلاف من الشباب إلى خارج مصر بتذكرة ذهاب فقط، إلى عوالم أخرى هربا من واقع قاس، فإن إحدى اللغات التي يخاطبون بها العالم هي لغة يناير.. كنا هناك وأردنا حرية فحرمونا منها. وليس صعبا أن تفهم الشعوب هذه اللغة، ربما الوحيدون الذين لم يفهموا هذه اللغة حتى الآن هم هؤلاء الممسكون بمقاليد السلطة في القاهرة؛ الذين لم يستطيعوا أن يأتوا بروح أو سردية قيمية جديدة يواجهون بها ما حدث في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، فآثروا أن يعترفوا بيناير شكليا ويحاربونها فعليا. وهو انتصار مرحلي عظيم ليناير في ظل هزيمتها السياسية.