كتاب عربي 21

ورأيت الثورة بالعين المجردة

1300x600

تقول حكمة شعبية مصرية: "إذا فاتك الميري تمرّغ في ترابه"، من باب الحض على الحرص على الوظائف الميرية (الحكومية)، والتعامل مع "الميري" أي الحكومة على أي مستوى باعتبار أنها صاحبة الحظوة والثروة. ويقال إن أصل المثل هو أن كل من كان يزرع "الميرة" أي القمح في مصر في ظل الحكم الروماني، كان يُمنع من أخذ أي شيء منه بعد حصاده، إلا بأمر الحاكم الروماني، لأن معظمه كان يُحفظ في صوامع توطئة لتصديره إلى مختلف أطراف الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم كان النصح للفلاح المصري بأن يبحث في تراب الصوامع عسى أن يجد فيه بعض الميرة.

 

الثورة في ذكراها الأولى

فاتتني معايشة وقائع الثورة السودانية التي اجتثت نظام عمر البشير عن كثب، ولكن واتتني فرصة التمرغ عضويا في أديمها خلال الأيام القليلة الماضية، في الذكرى الأولى لانطلاق شرارتها في كانون أول (ديسمبر) 2018، وكنت شاهد عيان على طوفان بشري في الأضلاع الثلاثة للعاصمة السودانية (الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري) يوم الخميس الماضي.

خرج الملايين في مختلف أصقاع السودان في ذلك اليوم مرددين شعارات الثورة، وكان الشعار الأكثر حضورا وترديدا هو المطالب بالاقتصاص من قتلة الشهداء في أشهر الثورة الأولى، خاصة ضحايا مجزرة 3 حزيران (يونيو) تحت مسامع وأبصار قيادة القوات المسلحة، ومن ثم كان من المفهوم أن يكون الهتاف الأكثر تداولا في تلك المواكب: يا عسكر ما في حصانة/ يا مشنقة يا زنزانة.

وكان ختام فعاليات إحياء ذكرى الثورة تجمع حاشد في ساحة الحرية والتي كان إسمها في عصر البشيري الطباشيري "الساحة الخضراء"، حيث أدى عمر البشير رقصته الأخيرة حين حشد له سماسرة المواكب بضعة آلاف بعد اندلاع الثورة، وهتفوا له "تقعد بس"، كهتاف مضاد لـ "تسقط بس" التي كان الثوار يرددونها في رسالة إلى البشير، كي يفهم أن المطلوب ليس تحسين الأجور أو إجراء تعديل وزاري أو حتى التعهد من جانبه بعدم خوض انتخابات رئاسية جديدة، بل فقط أن "يحِل عن سماء" السودان.

 

أمل رغم الضائقة الاقتصادية

منذ أن وصلت مطار الخرطوم تسنى لي رؤية ما أحدثته الثورة من تغيير في البلاد على وجوه شرطة الجوازات والجمارك الباسمة، وكانت الوجوه التي ظل المسافرون يطالعونها خلال السنوات الثلاثين الماضية عبوسة عليها غبرة وترهقها قترة، وفي أسفلها ألسنة زفرة، تتعمد استفزاز القادمين والمغادرين، فقط لإثبات أن من حقهم كعاملين في أجهزة الأمن السياسي أن يوجهوا اللكمات بالكلمات والقبضات، وهم محصنون من المساءلة القانونية.

وترى في خرطوم الثورة هذه الأيام معالم الضائقة المعيشية في كل مكان، فالطوابير أمام المخابز طويلة كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، وإذا توفَّرت سلعة استراتيجية تعذّر توفير المال اللازم لاقتنائها، ومع هذا فلن تجد من "يسب الحكومة" كما كان الحال كما جاء على لسان شاعر الثورات السودانية محجوب شريف خلال الحقب الديكتاتورية: تصحى المدينة/ تقوم، تستحم/ ترتب هدومها وتسب الحكومة/ وتقعد تطنطن لحد الصباح.

فهناك إدراك تام بأن الخراب الذي لحق بالبلاد على مدى ثلاثين سنة تحت سنابك عصبة عمر البشير لا يمكن إصلاحه في ثلاثة أشهر، هي كل عمر الحكومة الانتقالية التي تم تشكيلها بعد سقوط نظام البشير في أيلول (سبتمبر) الماضي، والجميع يردد مقولة شعبية رائجة في السودان بأن "العافية درجات" أي أن التعافي من العلل والخلل يكون بالتدرج، وليس ضربة لازب.

 

لو كانت إزاحة البشير هي غاية المرام لثوار رابطوا في الشوارع لأشهر طوال، لرحبوا بحلول الجنرال ابن عوف محله، في نيسان (أبريل) الماضي


فرغم كل العنت الذي يعاني منه الناس في السودان بسبب الضوائق المعيشية، إلا أن الملايين التي رأيتها خلال التطواف في الخرطوم وهم يرددون شعارات الثورة، حرصوا على ترديد: شكرا حمدوك (في إشارة إلى رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك)، الذي لم ينجز شيئا ملموسا خلال أسابيعه الثلاثة عشر في دست الحكم، ولكنه أعطى الناس الأمل في غد أفضل، وشرع في تفكيك نظام البشير ممثلا في أتباعه الذين يشغلون وظائف قيادية في مرافق حكومية، فقد كان الشعار الأجهر للثورة هو "تغيير النظام"، وليس فقط تغيير رأس الدولة.

ولو كانت إزاحة البشير هي غاية المرام لثوار رابطوا في الشوارع لأشهر طوال، لرحبوا بحلول الجنرال ابن عوف محله، في نيسان (أبريل) الماضي، عندما قرر كبار العسكريين الإطاحة بالبشير نزولا على رغبة الثوار، ولكن مع عدم تسليم السلطة الى مدنيين، وراوغوا وناوروا وتكتكوا للانفراد بالسلطة، فكانت المواكب المنددة بخلفاء البشير من العسكر أقوى شكيمة من تلك التي خرجت للإطاحة بالبشير.

وبالتأكيد فإن هناك أصواتا تعبر عن ضيقها مما تراه من عدم تحسن الأوضاع المعيشية في ظل الحكومة الحالية، ولكن تلك الأصوات تدرك أنه ما كان لها أن تُسْمع، لولا الثورة وحكومة حمدوك، وحتى خروج أنصار الرئيس المخلوع عمر البشير إلى شوارع الخرطوم رافعين هتاف "يسقط حمدوك"، دون أن يتعرضوا للضرب أو الاعتقال أو الغاز البذيء، كان دليلا محسوسا على أن ثمار الثورة متاحة ومطروحة للتداول حتى للأقلية المتضررة منها.