كتاب عربي 21

الرباط ـ باريس ـ بيكين.. حرب كسر الإرادات!

1300x600

تشهد المدن الفرنسية منذ أكثر من أسبوع موجة إضرابات تكاد تشل الحركة بالبلاد احتجاجا على المشروع الحكومي المتعلق بالمعاشات. يأتي هذا الإضراب العام استكمالا على ما يبدو لحركة السترات الصفراء، التي كانت أول مسمار دُقّ في نعش الفترة الرئاسية الحالية لإيمانويل ماكرون. وإن كان من حقيقة يمكن الخروج بها من مختلف التحركات الاجتماعية الغاضبة، التي هزت فرنسا ولا تزال، فهي  عمق الأزمة الاقتصادية المتأزمة التي يشهدها الاقتصاد الفرنسي نتيجة عوامل عدة يشكل انحسار النفوذ الفرنسي في مختلف مستعمراتها السابقة، في إفريقيا على الخصوص، بما مثلته تلك البلدان وثرواتها من مصدر لا ينضب للثروة الفرنسية وبحبوحتها الاقتصادية والاجتماعية لعقود، أحد أسبابه الرئيسية إن لم يكن الأهم.

 

صراع النفوذ على القارة السمراء


يعتقد كثيرون أن فرنسا تعرف يقينا أن نهايتها في نهاية نفوذها في الأسواق الإفريقية المحفوظة لها تاريخيا. لأجل ذلك تكابد من أجل الإبقاء على حصة الأسد في سوق صنعتها طيلة المرحلة الاستعمارية، وظلت تحكمها مباشرة أو بوكالة الأنظمة التابعة طيلة سنوات ما سمي بالاستقلال. ولعل في التدخلات المباشرة للدولة الفرنسية بتنصيب الحكام أو الانقلاب عليهم وفق مصالحها، بشكل مباشر أو عن طريق مرتزقة فرنسيين صالوا وجالوا في قصور الحكم الافريقي تثبيتا وتغييرا، دليل على الأهمية القصوى التي تمثلها تلك البلدان لفرنسا، وعلى عدم تقبلها لأي نزعة سيادية في اتخاذ القرار الأصلح للبلدان وشعوبها.

 

صراع النفوذ على القارة السمراء، لما تقدمه من فرص حقيقية للاستثمار ونهب الثروات، صراع صار مواجهة مكشوفة بين مختلف القوى النافذة والساعية لدخول ملعب الكبار.


قبل أيام فقط، عادت جثامين ثلاثة عشر جنديا فرنسيا قضوا في مالي في مواجهة من تسميهم باريس الجهاديين أو الإرهابيين، والحال أن الهدف الحقيقي من تواجدهم هناك كان تكريس القبضة الفرنسية على مقدرات البلاد ومعها مصير دول الصحراء والساحل الافريقي. ولا يزال منهم كثيرون يسهرون على تثبيت تلك الغطرسة الاستعمارية، مدعومين ب"جنود" مدنيين منتشرين في الإدارات والمؤسسات التعليمية وفي كل مراكز القرار الافريقي، يدينون لها بالولاء ويمنعون أي محاولة اختراق تهدد مصالحها.

صراع النفوذ على القارة السمراء، لما تقدمه من فرص حقيقية للاستثمار ونهب الثروات، صراع صار مواجهة مكشوفة بين مختلف القوى النافذة والساعية لدخول ملعب الكبار. القوى الغربية التقليدية تتصارع فيما بينها لنيل حصتها من الكعكة. لكنها تواجه متحدة قوى جديدة تتزعمها الصين وتركيا وإيران وبعض دول الخليج والمغرب. 

 

البوابة الأهم

المغرب صار البوابة الأهم لتيسير أي محاولة اختراق غير تقليدية بالنظر لموقعه الجغرافي، وأيضا بالنظر لتوجهه الافريقي، الذي مكنه في السنوات الأخيرة من بناء شبكة اقتصادية كبيرة، تجلت أهميتها في تحول المملكة إلى أول مستثمر في غرب إفريقيا والثاني على مستوى القارة. فالاستثمارات المغربية في الغرب الافريقي تمثل نصف الاستثمارات الأجنبية لدرجة أن المصارف المغربية تحقق عشرين بالمائة من رقم معاملاتها هناك. الوجود الاقتصادي المغربي يشكل للحالمين باختراق القارة فرصة لعقد شراكات ثنائية تفتح الأسواق الافريقية أمامها.

من هنا تأتي أهمية الصراع على السوق المغربية ذاتها، وهو ما ظهر في الأسابيع الأخيرة التي تلت خطاب العاهل المغربي، بمناسبة عيد المسيرة الخضراء في السادس من نوفمبر الأخير، وفيه أعلن عن مشروع ضخم يصل مدينتي الدار البيضاء و أغادير مرورا بمراكش عبر خط سككي سريع، يعرف بالتيجيفي، استكمالا للخط الرابط بين البيضاء وطنجة في اتجاه الشمال.
 
خط طنجة ـ الدار البيضاء تم تدشينه منتصف كانون أول (ديسمبر) 2018 بحضور شخصي من الرئيس ايمانويل ماكرون. وكان تنفيذه موكولا لشركة ألستوم الفرنسية بتكلفة قاربت الثلاثة ملايير دولار، وهي كلفة مرتفعة جدا أملتها ظروف خاصة دفعت المغرب وقتها إلى منح الشركة الفرنسية في العام 2007 امتياز العمل على الخط السككي، تعويضا عن صفقة طائرات حربية فرنسية تراجعت المملكة عن اقتنائها لفائدة طائرات أمريكية بديلة. ولأن فرنسا اعتبرت سوق السكة الحديدية المغربية، من يومها، كعكة خاصة لا يمكن الاقتراب منها، فقد فاجأها القرار المغربي الساعي للعمل مع شركة صينية قدمت عرضا يسمح بتقليص التكلفة إلى النصف مع تقديم مواعيد التسليم.

 

المغرب والتوجه إلى الصين


تفكير المغرب في التوجه إلى الصين لم يرق باريس ماليا. لكنه لم يرق الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيا، بالنظر إلى سعيها الحثيث إلى تحجيم التوسع الصيني في العالم. المغرب حليف أمريكي قديم واختراق التكنولوجيا الصينية لمجاله أمر مزعج وهو ما عبرت عنه الولايات المتحدة للمغرب حسب مصادر صحفية اهتمت بالموضوع.
 
المغرب، وبغض النظر عن التكلفة المالية المنخفضة، يرى في الصفقة الصينية بوابة للانضمام إلى طريق الحرير الذي تسوقه بيكين كطريق بديلة للتجارة العالمية تربط القارات الافريقية والاوربية والاسيوية على قاعدة المصلحة المشتركة للجميع. لكن فرنسا، المدعومة بالأمريكيين والإسبان، مصرة على استعادة المبادرة وتنفيذ المشروع. لأجل ذلك كثفت الضغوط على المغرب التي طفا بعض منها إلى السطح وحول الأزمة الصامتة إلى عرض فرجوي لا يزال في فصوله الأولى.
 
قبل أيام خرج وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، في اجتماع مع مهنيي قطاع صناعة السيارات بفرنسا، ليعلن عزم حكومة بلاده إعادة توطين الاستثمارات الفرنسية في القطاع لما يمثله خروج تلك الاستثمارات إلى بلدان خارجية، وعلى رأسها المغرب، من فقدان لآلآف فرص العمل، ولكلفته الاقتصادية على فرنسا التي تحولت إلى مستورد لسياراتها. لومير اعتبر بناء مصانع لتركيب السيارات الفرنسية في المغرب نموذجا استثماريا فاشلا. والمعروف أن رئيسه ايمانويل ماكرون كان قد تنقل إلى المغرب، شهر أبريل الأخير، للمشاركة في تدشين مصنع جديد لشركة بيجو ستروين بمدينة القنيطرة المغربية باعتباره دليلا على عمق العلاقة الاقتصادية بين البلدين. ولعل في النتائج التي حققها المغرب في قطاع صناعة السيارات ما يجعل فرنسا قادرة على الضغط عليه حيث يرتقب أن يحقق، في أفق سنة 2020، ما قيمته عشرة ملايير دولار كرقم معاملات في مجال التصدير. الاستثمارات الفرنسية في القطاع واجهة للوجود الفرنسي بالبلاد ممثلا بما يقارب ثمانمائة شركة بينها أكثر من ثلاثين شركة مشمولة بمؤشر كاك 40، وهو المؤشر الرئيسي لبورصة باريس لأكبر أربعين شركة فرنسية. 

 

السيادة لم تكن يوما منة من أحد بل بناء متواصل لمنظومة متكاملة، يبدو أن مشروع القطار السريع فرصة للتسريع فيها، والانتقال لمرحلة الندية في العلاقة مهما بدت العراقيل أو ضعفت الأنفس أو تداخلت المصالح وانكسرت العزائم.


باريس، الحليف الأقدم للمغرب، وفي إطار ضغوطها العلنية، أطلقت مؤسساتها الإعلامية للضغط في قضية الصحراء، حيث قدمت وكالة الأنباء الفرنسية، في تطور ملفت، الناشطة الصحراوية المقيمة في المغرب دون أن يمنعها ذلك من الجهر بموقفها الانفصالي الداعم لجبهة البوليزاريو، باعتبارها "غاندي الصحراء". وهو خروج إعلامي لم يتوان المغرب في الرد عليه من خلال وكالته الرسمية في "حرب وكالات" تخفي واءها أطماعا ومصالح تتخذ كل القضايا الممكنة وسيلة للضغط، ربما يكون وجود السفيرة الفرنسية المعينة حديثا وقودا لها بالنظر للسنوات التي قضتها مستشارة للرئاسة الفرنسية في الشؤون الافريقية قبل اعتمادها سفيرة بتل أبيب ومنها إلى الرباط.

في العشرين من نيسان (أبريل) من العام 2016، شهدت الرياض قمة مغربية خليجية حمل خطاب العاهل المغربي فيها عبارة واضحة كانت الرد المناسب على من رأوا في زيارته، التي سبقت القمة، إلى روسيا خروجا من بيت الطاعة الغربي. قال الملك يومها: "المغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأحد". الابتزاز الفرنسي المتواصل بدعم أمريكي وإسباني، فرصة حقيقية لتجسيد تلك الجملة والثبات على مبدأ سيادة المغرب في اتخاذ قراراته وربطها بالمصلحة أينما ولت وجهها. للمغرب أوراق ضغط يمكن تحريكها بشكل يمكنها من التأثير في تقوية موقفه التفاوضي وتحسين شروط الصفقات بعيدا عن شروط الإذلال أو الاستغلال الشرس للثروات. السيادة لم تكن يوما منة من أحد بل بناء متواصل لمنظومة متكاملة، يبدو أن مشروع القطار السريع فرصة للتسريع فيها، والانتقال لمرحلة الندية في العلاقة مهما بدت العراقيل أو ضعفت الأنفس أو تداخلت المصالح وانكسرت العزائم.

تراجع النفوذ الفرنسي في تونس بعد صعود قيس سعيد لدفة الحكم، وتراجعه بالجزائر بالنظر لضبابية الموقف وإصرار المتظاهرين على تحقيق السيادة الشعبية، ومواصلة سقوط مقامرتها على خليفة حفتر بليبيا، وهي التي قادت الحرب الأطلسية ضد نظام العقيد القذافي، كلها دلائل على انحسار القوة الفرنسية التي تدفع باريس إلى الشراسة في التمسك بالمغرب سوقا مفتوحة لها دون غيرها، وهو ما يجعل مشروع الرباط ـ باريس ـ بيكين إكسبريس امتحانا حقيقيا للإرادات له ما بعده دون شك.