عرفت المغرب منذ دستور العام 2011، تحولات سياسية عميقة لم تقتصر فقط على تمكين الإسلاميين من المشاركة في الانتخابات والحكم، بل ومن تصدر نتائج الانتخابات وترؤس الحكومة. وقد تبع ذلك انفتاح الدولة بمختلف مؤسساتها لمناقشة كافة القضايا الخلافية في مؤسسات الدولة قبل توسيعها في وسائل الإعلام.
آخر القضايا التي أثارت جدلا فكريا وقانونيا وسياسيا، تتصل بحقوق المواطن على الدولة، ماذا يفعل المواطن إذا حكم القضاء لصالحه في خلاف بينه وبين الدولة؟
الكاتب والإعلامي المغربي بلال التليدي، يجيب على هذا السؤال في تقرير أعده خصيصا لـ "عربي21"، وأشرك فيه أصحاب الاختصاص من المحامين والقانونيين والسياسيين.
أثارت المادة التاسعة التي أدرجها القانون المالي ضمن مواده جدلا قانونيا وحقوقيا وفكريا في المغرب، وذلك ليس فقط داخل أسوار المؤسسة التشريعية، ولكن الجدل امتد للخارج، حيث رأت بعض منظمات المجتمع الحقوقي في هذه المادة انتهاكا لذوي الحقوق، وتأسيسا لمنطق حصانة الدولة وعدم خضوعها للقانون.
وتنص المادة التاسعة على أنه يتعين عل الدائنين الذين بحوزتهم أحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة أو الجماعات الترابية ومجموعاتها ألا يطالبوا بالآداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية أو الجماعات الترابية المعنية، حيث يتعين الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه 90 يوما ابتداء من تاريخ الإعذار بالتنفيذ في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية لهذا الغرض، وفق مبادئ وقواعد المحاسبة العمومية، وإلا يتم الآداء تلقائيا من طرف المحاسب العمومي داخل الآجال المنصوص عليها بالأنظمة الجاري بها العمل في حالة تقاعس الآمر بالصرف عن الأداء بمجرد انصرام الأجل أعلاه.
وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الآمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف وجوبا بتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة وذلك في أجل أقصاه أربع سنوات وفق الشروط المشار إليها أعلاه، دون أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز لهذه الغاية.
على أن ما فجر الجدل في هذه المادة في أوساط المحامين والقانونيين والمجتمع الأكاديمي المهتم بالقانون، فضلا عن نشطاء حقوق الإنسان، هو اتجاهه نحو تحصين الدولة، وتسويغ عدم خضوع أموالها وممتلكاتها للحجز من قبل الدائنين الذين بحوزتهم أحكام قضائية نهائية ضدها.
سياق لجوء الدولة لتحصين نفسها من سريان الأحكام ضدها
الواقع أن هذه المادة لم تأت من فراغ، بل لها سياقها الملتهب وحيثياتها التي تتكئ عليها. في السابق، لم يكن واقع العمل يتجه لتجويز الحجز على أموال وممتلكات الدولة، لكن رفض عدد من المؤسسات العمومية والوزارات والجماعات الترابية تنفيذ الأحكام القضائية، دفع أعلى سلطة في البلد إلى إخراج المحاكم الإدارية في بداية التسعينيات لتمكين المواطن من الانتصاف من الإدارة وتحصين نفسه من تعسفها. وقد كان لخطاب الملك محمد السادس في افتتاح دورة تشرين أول (أكتوبر) البرلمانية سنة 2016، بمثابة إعلان نهاية عهد وبداية آخر فيما يخص حق المواطن في مقاضاة الدولة وانتصافه منها، إذ أكد الخطاب أنه من "غير المفهوم أن تسلب الإدارة للمواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها، وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي".
هذا التوجيه الملكي الآمر، أطلق يد القضاء الإداري، فصار يستعمل الغرامات التهديدية لإلزام الدولة بتنفيذ الأحكام في آجالها المقررة تحت طائلة الحجز، وانتقل الحجز من الحسابات الخصوصية إلى الميزانية العامة، بل وصل إلى حساب الخزينة العامة، وهو ما ترتب عنه وضع الدولة أمام مسؤوليات مالية لا تغطيها إمكاناتها المالية، وأن خضوعها لأحكام القضاء قد ينتهي بها إلى انهيار التوازنات المالية وإعاقة السير العادي للمرافق العمومية، وهو ما دفع منذ سنة 2018 إلى التفكير في خيارات للخروج من هذا الوضع، بمحاولة التوافق على صيغة تضمن استمرار السير العادي للمرافق العمومية دون أن تضر بحقوق الدائنين، فجاءت الصيغة المتضمنة في المادة التاسعة لتعكس هذه المحاولة التي لم تكن محط اتفاق سواء على مستوى الآليات الحكومية أو على مستوى الفرقاء السياسيين في المؤسسة التشريعية بغرفتيها.
خلاف حكومي حاد.. الرؤية الشمولية للإصلاح أم الاتجاه السريع لتحصين الدولة ضد القضاء؟
هذه المادة فجرت في المجلس الحكومي جدلا حادا بين وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والمجتمع المدني مصطفى الرميد ووزير الداخلية عبد الواحد لفتيت. فالأول، عهد إليه قبل سنة برسالة رسمية من قبل رئيس الحكومة بتشكيل لجنة متخصصة تضم خبراء من كافة القطاعات المعنية، لمناقشة هذا الموضوع، ووضع تصور لإصلاح شمولي يراعي التوازن بين مقتضيات السير العادي للمرافق العمومية، وبين حق الدائنين في استخلاص حقوقهم عبر الآليات القضائية التنفيذية. المثير في الموقف، أن وزير الدولة مصطفى الرميد سبق أن أعلن عن انتهاء اللجنة من عملها، وعن جهوزية مشروع إصلاحي شمولي يجنب المغرب هذا الجدل الذي يسيء إلى سمعة الدولة وصوتها في علاقتها بمؤسسة القضاء وأيضا في علاقتها بحقوق المواطن، بل وفي تجاوبها مع التوجيهات الملكية بهذا الخصوص.
اجتماع المجلس الحكومي الأخير عرف توترا حادا بين الوزيرين حول خلفيات مسارعة وزارة الداخلية بتنسيق مع وزارة المالية لإنتاج صيغة قانونية متسرعة تتجاوز العمل التراكمي والتشاركي الذي انتهت إليه لجنة وزير الدولة، بل جوهر التوتر أن الصيغة المذكورة لم تكن محط تشاور مع وزير الدولة وهو الذي عهد إليه رسميا بفك هذا الإشكال ضمن تصور شمولي ينهي الجدل الحقوقي والقانوني، لكونه يحمل خلفية قانونية (محامي) وأيضا خلفية حقوقية ثقيلة (رئيس سابق لجمعية حقوقية وزير حقوق الإنسان).
تحصين الدولة ضد الحجز على ممتلكاتها والجدل الثلاثي الأبعاد
أثارت هذه المادة جدلا ثلاثي الأبعاد:
1 ـ الوجه الأول فيه مبدئي، يطرح سؤال خضوع ممتلكات الدولة للحجز ومدى تأثير ذلك على السير العادي للمرفق العمومي كان من الطبيعي أن يكون أول ثائر على هذه الصيغة القانونية هو جمعيات المحامين، فهؤلاء، إلى جانب المواطنين الحائزين على الأحكام القضائية النهائية ضد الدولة والجماعات الترابية، هم المتضررون الأولون من هذه المادة، ولذلك كانوا السباقين إلى دعوة الحكومة والبرلمان بغرفتيه إلى التراجع العاجل عن هذه المقتضيات وسن قوانين تعزز سيادة القانون وتفرض على المحكوم عليهم خصوصا إدارات ومؤسسات عمومية وجماعات ترابية، التعجيل بمنح الحقوق لأصحابها وتنفيذ الأحكام القضائية، حجة المحامين أن ما تضمنته المادة 9 من منع إخضاع أموال الدولة والإدارات العمومية والجماعات الترابية للحجز تنفيذا لأحكام القضائية قابلة للتنفيذ، هو إنكار للعدالة وتعطيل وظيفة القضاء، وللأمر بالتنفيذ الذي يصدر بأمر من أعلى سلطة في البلاد، وتضييع لحقوق المتقاضين الذين لم يستصدروا تلك الأحكام المقرة لحقوقهم إلا بعد مساطر إدارية وقضائية قد تكون معقدة وطويلة ومكلفة.
المحامية سليمة فراجي تعتبر في تصريحات لها لوسائل الإعلام المحلية في المغرب، الصيغة التي جاء بها مشروع قانون المالية تنسف مقتضى دستوريا وتحيد عن مبدأ المساواة أمام القانون، وتعلل وجهة نظرها بالقول بأنه إذا كانت الإدارة ملزمة بصيانة الحقوق والدفاع عنها، فيجب على السلطات المساعدة على تنفيذ الأحكام القضائية بقوة الفصل 126 من الدستور، كما أن الأحكام القضائية النهائية تعتبر ملزمة للجميع سواء تعلق الأمر بالدولة أو الأشخاص الذاتيين أو الاعتباريين.
في حين يرى امحمد الهلالي الباحث في القانون، في حديث لـ "عربي21"، أن القضية ليست بهذه البساطة، وأن دفوعات المحامين، مبررة باختصاصهم ووظيفتهم، في حين أنه ينبغي النظر للقضية في شموليتها، إذ أن هذه الأحكام بمجموعها، قد تؤدي إلى إرباك السير العادي للمرفق العمومي، وقد تفضي إلى ضياع حقوق كثيرة منها أجور موارد بشرية لمرافق الدولة والجماعات المحلية، ومن ثمة، فإن الاعتراف من ناحية حقوقية بعدالة القضية وكونها تدخل ضمن تكريس صورة دولة الحق والقانون، لا ينبغي أن يدفعنا لتطوير اجتهاد قانوني ينفتح على التجارب القضائية وعلى الاجتهاد القضائي، ومنه على الخصوص الفرنسي، فبالإضافة إلى ضبط آجال معقولة للأداء، وضمانات الالتزام بذلك، من الضروري أن يتم الاجتهاد في تطوير مقولات قانونية تميز خلال بين ما يجوز الحجز فيه ضمن أموال الدولة وما لا يجوز، وذلك ضمانا لحقوق الدائنين من جهة، وتأمينا لاستمرار السير العادي للمرفق العمومي من جهة أخرى، وضمن هذا الاجتهاد يمكن مثلا أن نسوغ الحجز على أموال الدولة الموجة للاستثمار، ويمنع الحجز على الأموال الموجهة للموارد البشرية أو تسيير المرفق العمومي.
أما زهير نعيم، الأكاديمي والأستاذ الجامعي بكلية الحقوق جامعة محمد بن عبد الله فاس ظهر المهراز، فله وجهة نظر أخرى يرد بها على حجة الحفاظ على السير العادي للمرفق العمومي، فيرى في تصريح لـ "عربي21"، أن المقتضى الذي أقدمت عليه الحكومة من خلال المادة التاسعة في مشروع القانون المالية من شأنه ليس فقط القضاء على نشاط المقاولات بحرمانها من السيولة مع ما يرترتب عن ذلك من توقف عن دفع مستحقات دائني المقاولة من إدارة الضرائب أو العمال أو المتعاقدين، بل إنه يهدد بوقف تنفيذ الدولة لالتزاماتها المرفقية التي تتم بعروض مناقصة مثل المطاعم المدرسية وأشغال البستنة وغيرها.
وبالتالي، يضيف زهير نعيم، فالعذر الذي تقدمه الجهات التي تتبنى هذا المقتضى والذي يتذرع باستمرار المرفق العمومي بإبقاء أمواله محصنة من المتابعة لا يستقيم أمام واقع الحال.
الوجه الثاني في هذا الجدل، يرتبط بالتدخل في القضاء، وما إذا كان من الجائز لمشروع قانون المالية أن يتضمن مقتضيات لا تندرج ضمن اختصاصاته، فالأستاذ والباحث الجمعي إدريس بلماحي في مقال بموقع هسبريس، يرى أن هناك شبه إجماع على أن تنفيذ الأحكام القضائية لا يدخل ضمن نطاق قانون المالية، ويعلل ذلك بكون المادة 6 من القانون التنظيمي للمالية صريحة، ومصاغة بلغة الوجوب، بحيث لا تجيز إدماج أي مقتضى خارج عما حددته حصرا لمضمون قانون المالية، والذي نصت فيه على أنه "لا يمكن أن تتضمن قوانين المالية إلا أحكاما تتعلق بالموارد والتكاليف أو تهدف إلى تحسين الشروط المتعلقة بتحصيل المداخيل وبمراقبة استعمال الأموال العمومية، وهو ما أكد عليه نبيل الشيخي رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس المستشارين في حديث لـ "عربي21"، رأى فيه استقراءه لتجارب عدد من الدول، يبين أن مكان هذه المقتضيات هو المسطرة المدنية.
نبيل الشيخي أقر بأن عددا من الدول تمنع الحجز على أموال الدولة، لكنه، يضيف أنه لا توجد أي دولة تدرج هذا المقتضى ضمن قانون المالية، بل المعمول به عند هذه الدول أنها تدرج ذلك ضمن قوانين خاصة.
وبخلاف الرأي الذي يرى أن مشروع قانون المالية يمس بأحكام القضاء من خلال المادة 9، يرى امحمد الهلالي، أنه ليس في المدة أن أي تطاول على المؤسسة القضائية، فالقضاء يطبق القانون، والقانون تشريع تضطلع به المؤسسة التشريعية، وما ورد في المادة التاسعة يمكن قراءته على اعتبار أنه تشريعه ينظم الكيفيات التي يتم بها تنفيذ الأحكام.
وفي تفاعله مع هذه الأفكار يرى زهير نعيم، أن إدراج هذا المقتضى في قانون المالية لا أساس له، لأنه إجراء مسطري، يهم التنفيذ ولا علاقة له بموارد الدولة أو أعبائها.
2 ـ الوجه الثالث من الجدل، يتوجه هذه المرة إلى الفهم العميق لجوهر المشكلة، ولماذا يتم اللجوء إلى معالجة سريعة إلى ما انتهى إليه المشكل دون وضعه في سياق شمولي لمعرفة المحددات التي دفعت به إلى هذا الوضع المعقد، فوزير الاقتصاد والمالية محمد بن شعبون صرح أمام لجنة المالية بمجلس النواب، خلال المناقشة العامة لمشروع القانون المالي، أن حجم عمليات الحجز على ميزانية الدولة من أجل تنفيذ أحكام قضائية بلغ ما يناهز 10 ملايير درهم، خلال ثلاث سنوات، لكنه لم يوضح السبب الذي جعل هذه المبالغ المستحقة للدائنين بلغت هذا الرقم المخيف الذي يهدد السير العادي للمرفق العمومي، حتى إن الظاهر من خلال المادة التاسعة هو محاولة وقف النزيف، دون محاولة طرح إصلاح شمولي يطرح الأسئلة الحقيقية التي ينبغي طرحها.
فنبيل الشيخي، يرى في تصريحاته لـ "عربي21"، أن تراكم الديون حتى تم الحجز على 10 ملايير درهم خلال الثلاث سنوات الأخيرة، وبلوغ قيمة الأحكام التي لم تؤدى بعد 30 مليار درهم، يؤشر على أن هناك تجاوزات وقعت وفساد حصل، وأن هناك تعسفات ارتكبتها الإدارة في السابق، وأن عددا من المسؤولين قاموا بالاعتداء على أملام المواطنين فيما بعضهم الآخر لم يستجب للقضاء حتى أصبحت ممتلكات الدولة مطوقة بمشمولات الغرامات التهديدية أيضا، وأن مسؤولين قانوا بهذه التعسفات وغادروا المسؤولية دون أن يحاسبوا وتركوا المرفق العمومي رهينة للدائنين. ولذلك، يضيف نبيل الشيخي، الأولوية تتجه لوضع إصلاح شمولي لهذا الموضوع، يدرس الجوانب في كل حيثياته، بالنحو الذي لا يضر بصورة دولة الحق والقانون، ولا يعرض المرفق العمومي للإرباك، وفق تعبيره.
تونس.. الشعر الشفوي بين التعبيرية المقاومة والتجاهل الأكاديمي
جدل حول التعبيرات السياسية لفن "الراب" في المغرب
الأحزاب التونسية والزكّاة.. حاجة انتخابية أم ضرورة اجتماعية؟