قضايا وآراء

الطائفية العربية منتهية الصلاحية

1300x600
حين غزت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق عام 2003 كان أول ما فعله الحاكم الجديد بول بريمر هو تشكيل مجلس حكم جديد، يضم ممثلين عن الأديان والمذاهب والأعراق في العراق. لم يكن التقسيم الطائفي مطلبا عراقيا وطنيا، حتى إن كثيرا من العائلات مختلطة المذاهب والأعراق بدأت تبحث عن هويتها الجديدة وفق التقسيمة الجديدة.

هذا ملمح واحد من ملامح المشروع التحرري الغربي في العراق الذي كان قائما على المحاصصة الطائفية كشكل من أشكال ضمان الاستقرار، على اعتبار حسن النية لدى القائمين على هذه الفكرة. ومع افتراض سوء النية، فإنه كان قائما على سياسة فرق تسد.

إحياء النزعة الطائفية كان كفيلا بتغيير معادلة الحكم والمجتمع في العراق خلال الخمس عشرة سنة الماضية، حتى تهاوت هذه المعادلة وسط مظاهر الغضب الشعبي النبيل. وهي المرة المليون التي يثبت فيها الشارع العربي أنه أكثر وعيا وحكمة من كل نخبه السياسية التي تدعي تمثيله. فأتت شعارات الثورة ومطالبها ضد هذه النخب الحاكمة، ابتداء من ممثليها الطائفيين، فقفزت الثورة على المعادلة التي استمرت للعقد ونصف العقد.

الوضع اللبناني يختلف كثيرا في بدايات تشكل المعادلة الطائفية، لكنه يتشابه في النهايات، من حيث المآل السياسي المتكلس الذي وصلت إليه، وصيغة الحكم الجامدة وانتشار الفساد، وتراكم المظالم الشخصية والعامة. لذلك كانت الشعارات واضحة ضد كل ما سبق. وكان صعبا أن يحدث اختراق طائفي لخيط الاحتجاج الجديد، وذلك لأنه كان احتجاج كل ما هو "تحت" أو محكوم ضد كل ما هو "فوق" أو حاكم. ومثلما دشن الشارع العراقي نهاية معادلة حكم، دشن اللبنانيون نهاية محاصصة حكم استمرت ثلاثين عاما بدأت مع اتفاق الطائف.

شجاعة الشارعين اللبناني والعراقي ليست في خروجهم للشوارع والتظاهر؛ لأن هذا الحق مكفول بدرجة ما في هذين البلدين، وإنما الشجاعة كانت في مواجهة الخوف من الشريك الآخر في الوطن الذي تم تصويره كعدو. وهي لحظات نادرة في تاريخ الشعوب يبلغ فيها الوعي الجمعي ذروته، مدفوعا بتجربة تاريخية عميقة ومظالم حقيقية.

بحسب ما ذكره لي بعض الباحثين في الدوائر الغربية، فإن هذا الحراك الجديد ضرب كل السيناريوهات الغربية لمستقبل المنطقة في مقتل. فكل الاحتمالات المستقبلية للباحثين هناك كانت مبنية على إعادة تشكل المكونات الطائفية الحالية في لبنان والعراق من داخل معادلة المحاصصة القائمة، وينحصر دور الفاعلين الآخرين في الدول ذات المصالح أو الميلشيات. وربما يعد هذا الأمر درسا للباحثين المعنيين بالشرق الأوسط، ولكي أن يعيدوا نظرتهم للشارع العربي واعتباره طرفا أصيلا في المعادلة السياسية القادمة بدلا من اعتباره طرفا هامشيا.

ليس لدي شك في أن هناك بحثا إقليميا ودوليا محموما عن صيغ بديلة لاحتواء الموقف المتفجر في كل من العراق ولبنان. وليست هناك ضمانة أن تكون الصيغ الجديدة بأحسن حال من المعادلة الطائفية التي كانت. الكرة تعود هذه المرة مرة أخرى لنخب سياسية واجتماعية في طور التشكل، والرهان سيكون على مدى وعيها ووعي الشارع في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه.

من المؤكد أن الخطاب الديني في ثوبه الطائفي أصبح فاقدا للصلاحية الزمانية والمكانية، وفي نفس الوقت لا توجد صيغ لخطاب وطني عام يعلي من شأن المواطنة ولا يعادي الدين في شكل عقد اجتماعي جديد. وحسنا فعل السيستاني بأن دعا البرلمان لسحب الثقة من الحكومة، وهو تراجع مهم من المرجعية الشيعية سيكون له ما بعده، وستوضح الأيام القادمة ما إذا كانت خطوة استراتيجية نحو عراق جديد أو مجرد تكتيك لتبديل وجوه الحكومة في محاولة لامتصاص الغضب المتصاعد. إذا أقدم حزب الله على تنازل مشابه ربما نستطيع أن نقول إن النخب بدأت في وعي متطلبات المرحلة.