أخبار ثقافية

لغة الحياة في شعر محمد الثبيتي

سهيل الفتياني

تشكل اللغة الركيزة الأساسية في التجربة الشعرية للشاعر السعودي محمد الثبيتي بوصفها التمثيل الجمالي لوعي الشاعر الفني ورؤيته للوجود. وقد تنبه الدارسون إلى عنايته باللغة، وإلى خصوصية الجانب اللغوي في تجربته وحداثته، وذهبوا إلى أنه يؤسس للغة شعرية جديدة، ويحلق باللغة في أفق مجازي شفاف يعانق الرمز، فهو يصنع أسطورته في اللغة وبواسطتها.

وتتسم اللغة لديه بأنها "لغة شعرية حديثة تكشف عن وعي متجدد للذات، على اعتبار أن الشعر يحاول اختزال تجربة وجودية بفعل اللغة الجمالية ذات الدلالة المجازية المتجددة. كما أنها تقوم على الانعتاق من أسر الدلالة القاموسية والمعجمية، وتتأسس على العناية بإقامة علاقات جديدة غير مألوفة بين الكلمات، كما يعتمد الانزياح الدلالي للمفردات، الأمر الذي يكسبها دلالات متجددة، حيث يواجه القارئ نوعا غير مألوف من الكتابة وجماليات جديدة. وتكتسب المفردات في نصه  طابعا رمزيا، فهي تتسم بالانفتاح والتعدد والاحتمال من خلال شحنها بدلالات صوفية وتراثية ووجودية، الأمر الذي أسهم في اتساع معجمه اللغوي وثرائه".

تتجلى ملامح الحداثة في معجم الثبيتي الشعري في انحيازه إلى لغة الحياة. ويبدو أنه تأثر، كغيره من الشعراء العرب، بدعوة ( ت. س. إيليوت) إلى اعتماد لغة الواقع في الشعر.  نتلمس هذا التأثر في ذهابه إلى أن الشعر تعبير عن التجربة الإنسانية بمفهومها الواسع. كما نجده يتبنى شعرية الواقع والتعبير عن اليومي، ويرى ضرورة هبوط الشعر من عليائه وأوهامه إلى الواقع، لينبثق من العيادات والفنادق والمقاهي. ويتضح هذا التوظيف في قصيدة (موقف الرمال، موقف الجناس):

أصادق الشوارع
والرمل والمزارع
أصادق النخيل
أصادق المدينة
والبحر والسفينة
والشاطئ الجميل

يبدو الواقع المعيش هنا مرجعية الشاعر، فهو يتغنى باليومي والمنسي، ويعانق هموم الواقع، ويعلن عن رغبته في مصادقة أشيائه. ويجسد المعجم الشعري هذه الرؤية من خلال جنوحها إلى الواقع.  ويمزج الشاعر بين المعجم التراثي: (الرمل، والمزارع، والبحر، والسفينة، والحجارة)، بمعجم حديث: (الشوارع، والمدينة، والعزف). وإمعانا في الواقعية، نجده يميل إلى سرد التفاصيل اليومية بلغة بسيطة لا تثقل كاهلها الاستعارات والمجازات والمحسنات البديعية.

 

اقرأ أيضا: إشكاليات الالتزام في الأدب

وفي القصيدة ذاتها نعثر على نماذج تؤكد محاولة الشاعر الالتحام بالواقع المعيش، وجنوحها صوب لغة الحياة اليومية بعفويتها وبساطتها وتدفقها:

يا بدرها
وهدى البصيرة
يا فخرها
وهوى السريرة
يا مهرها
وحمى العشيرة
يا شعرها
ومدى الضفيرة

يحيل المعجم الشعري هنا إلى لغة الحياة اليومية ببساطتها وعفويتها، كما أنه وثيق الصلة بلغة الشعر الشعبي كما في: يا بدرها، يا فخرها، يا مهرها، يا شعرها. علاوة على ذلك لعب الجانب الإيقاعي، ممثلا في قصر السطور الشعرية والروي الساكن، دورا مهما في تبسيط الخطاب الشعري واقترابه من المتلقي.

وتقترب قصيدة (الصعلوك) من لغة الواقع، حيث تُبرز الطابع الإنساني البسيط للإنسان، يقول الشاعر:

يفيق من الجوع ظهرا
ويبتاع شيئا من الخبز والتمر والماء
والعنب الرازقيّ الذي جاء مقتحما
موسمه
---
يفيق من الشّعر ظهرا
يتوسد إثفيّة وحذاء

يطوّح أقدامه في الهواء

يسلط المقطع الضوء على نموذج إنساني (الصعلوك) الذي يمثل المعادل الرمزي للشاعر، ويعبر بسردية مفعمة بالبساطة تتناغم مع بساطته، وترصد تحركه اليومي، من خلال ضمير الغائب والأفعال المضارعة: (يفيق، يبتاع، يتوسّد، يطوّح)، في دلالتها على استمرارية الإحساس الدائم باللا جدوى. ويسهم تكتيف الجمل الشعرية بما تتضمنه من حركية الأفعال في سرعة إيقاع الأحداث التي تمارسها الشخصية، بيد أنها حركية لا تفضي إلى التحول الإيجابي، فهي تعمل على إشاعة زمن سلبي يتسم بالعبثية والغياب. ونلحظ بأن المعجم اللغوي طافح بمفردات الحياة اليومية: الخبز، التمر، الماء، إثفية، حذاء. وتشير هذه المفردات إلى بساطة الشخصية وهامشيتها واغترابها عن واقعها.

نحس ونحن نتابع تجربة الثبيتي هيمنة هاجس تحديث المعجم الشعري على وعيه الجمالي. يتبين ذلك في محاولته الاقتراب من لغة الواقع والاتكاء على اللغة الشعبية كما يظهر في: (حيّوه حيّوه)، وفي (هيه يا عنقاء)، فهي تحيل إلى اللغة الشعبية المتداولة.

وتصل التجربة ذروتها في تماسها باللغة اليومية في توظيفها للأغنية الشعبية كما في قوله:

كريم يا نوٍ بروقه تلالا
نوٍ ورا نوٍ وبروق  ورا برق
قالوا: كما مبسم " هيا" قلت: لا لا
بين البروق وبين مبسم " هيا " فرق

يعمد الشاعر هنا إلى استحضار الأغنية الشعبية المتداولة في سعيه المتواصل لتبسيط خطابه الشعري والاقتراب به من الواقع؛ لإحساسه ببساطتها واقترابها من لغة الحياة اليومية، وسهولة نقلها إلى المتلقي، وعمق تأثيرها فيه.