في أيار/ مايو 2010 تم توقيع اتفاقية بين أربع دول (إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا) من دول حوض نهر
النيل في مدينة عنتيبي الأوغندية، وتم ذلك في غياب دولتي المصب (
مصر والسودان)، حيث وقع ممثلو الدول الأربع على الاتفاق بالأحرف الأولى.
ومنذ عام 2000م تم فتح ملف إعادة تقسيم
المياه بين الدول التسع التي يمر عبرها النهر. وكينيا لم توقع، لكنها أيدت الاتفاقية، فيما لم يحضر مندوبا الكونغو وبوروندي.
وقبل تلك الاتفاقية كان يتم تقاسم مياه النيل بالاتفاق الذي تم عام 1929 م بين مصر وبريطانيا، وتمت مراجعته عام 1959م. ويمنح هذا الاتفاق مصر حصة قدرها 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا والسودان 18.5 مليار متر مكعب. ويقول الخبراء إن هذه الاتفاقية تعتبر البداية الفعلية لأزمة
سد النهضة؛ الذي وصلت المفاوضات حوله إلى طريق مسدود، كما أعلنت مصر.
ومنذ اليوم الأول لبدء المفاوضات، قال خبير المياه الدكتور نادر نور الدين إن إثيوبيا ستلجأ لعامل الوقت والمماطلة، وستطلب التفاوض مع مصر بعيدا عن القانون أو عن الوساطة الدولية، وأن تفرض قانون الأمر الواقع والسيادة المطلقة على مياه النيل الأزرق وما أقامته عليه من سد عملاق.
الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت عام 1997م اتفاقية الأنهار الدولية العابرة للحدود لتنظيم العلاقة بين الدول المتشاركة في النهر (أي نهر)، والتي أصبحت ملزما منذ عام 2007م. هذه الاتفاقية تمنع دول المنابع من إقامة سدود عملاقة حتى لا تضر الدول التي تليها في النهر ودول المصب، وألزم الدولة التي تقيم سدا على نهر عابر للحدود أن تجري أولا دراسات بيئية وهيدرولوجية واجتماعية واقتصادية، لكن إثيوبيا أقامت السد أولا بلا دراسات، ثم طلبت من مصر والسودان الدفع لعمل الدراسات عن طريق مكتب استشاري، ثم ألغت عمل المكتب الاستشاري حتى لا يكون شاهدا على الأضرار التي ستقع على مصر.
* * *
"
أثيوبيا لا تتعاون، ونحن مستمرون في التفاوض معهم بالوسائل الدبلوماسية. وبالفعل نحن نناقش التعاون العسكري مع السودان، لكن إذا وصل الأمر إلى أزمة فسنقوم ببساطة بإرسال طائرة لقصف السد والعودة في نفس اليوم، أو يمكننا أن نرسل قواتنا الخاصة لتخريب السد. وتذكروا ما فعلته مصر في أواخر السبعينيات، أعتقد أن ذلك كان في عام 1976، وقتها كانت إثيوبيا تحاول بناء سد كبير فقمنا بتفجير المعدات وهي في عرض البحر في طريقها إلى إثيوبيا".. هكذا قالت تسريبات ويكليكس على لسان عمر سليمان عام 2010.
لكن الزمن عام 1976م كان غير الزمن والناس كانوا غير الناس. تبلغ المسافة من مصر إلى سد النهضة مرورا بأجواء السودان 1400 كيلومتر، وهو ما قد يكون عائقا، لكن طائرة رافال الفرنسية التي دخلت الخدمة في القوات الجوية المصرية قادرة وحدها على إزالة هذا العائق، إذ تستطيع الرافال الطيران لأكثر من 3700 كيلو متر، لكن وكما قال د. مصطفى الفقي في مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي: "اللي مقويهم بطاريات الصواريخ الإسرائيلية المحيطة بالسد من الجانب الآخر"، ذلك أن إثيوبيا اشترت من فرنسا صواريخ مضادة للرافال ووضعتها حول السد بترتيبات إسرائيلية.
* * *
لكن الحكاية في ما يبدو لها قصة، والقصة لها حدوته كما يقول المصريون، ذلك أن أمريكا تلقت طلبا من إثيوبيا عام 1957م للقيام بدراسة شاملة لحوض النيل الأزرق وقت بناء السد العالي، وبالفعل بدأت الدراسات حول الموضوع والتي انتهت بتقديم تقريرا شاملا عن الهيدرولوجيا ونوعية المياه، وشكل سطح الأرض، والجيولوجيا والموارد المعدنية، والمياه الجوفية، واستخدام الأرض وأخيرا الحالة الاجتماعية والاقتصادية لحوالي 25 حوضا فرعيا. وأعلنت الدراسة ونشرت في سبعة مجلدات عام 1964م، بعنوان "الموارد الأرضية والمائية للنيل الأزرق".
وقام المكتب الأمريكي بتحديد 26 موقعا تصلح لإنشاء السدود، أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق الرئيسي: كارادوبي، ومابيل، ومانديا، وسد الحدود (النهضة)، بإجمالي قدرة تخزين 81 مليار متر مكعب، وهو ما يعادل جملة الإيراد السنوي للنيل الأزرق مرة ونصف تقريبا.
* * *
في شباط/ فبراير 2011 أعلنت إثيوبيا عن عزمها إنشاء سد الحدود (النهضة) على النيل الأزرق على بعد 20-40 كم من الحدود السودانية، بسعة تخزينية تقدر بحوالي 16.5 مليار متر مكعب، وإسناده إلى شركة ساليني الإيطالية بالأمر المباشر. وقد أعلنت الشركة أنها غير مسؤولة عن أي مشاكل في المشروع بعد تسليمه (معامل الأمان فيه أقل من المطلوب هندسيا).
وقد تغير اسم المشروع أربع مرات في شهر واحد، من إكسبرس إلى الألفية إلى النهضة إلى النهضة العظيم! يحتوي تصميم السد على 15 وحدة كهربائية وهو ما يجعل سد النهضة في المرتبة الأولى أفريقيا والعاشر عالميا في قائمة أكبر السدود إنتاجا للكهرباء، الفائدة الكبرى لإثيوبيا من سد النهضة هي إنتاج الطاقة الكهرومائية (6000 ميجاوات) التي تعادل ما يقرب من ثلاثة أضعاف الطاقة المستخدمة حاليا، لكن الحل الأمثل والبديل لكل الأطراف هو التوسع في إقامة سدود صغيرة متعددة الأغراض (كهرباء، ومياه شرب، وزراعة بسيطة)، لكي تخدم أكبر عدد من المدن أو القرى التي يستحيل نقل المياه إليها.
المدى زمني التي تراه مصر مناسبا لعملية ملء خزان سد النهضة يجب ألا يقل عن ست سنوات وإثيوبيا تصر على ثلاث سنوات (خلال فترة الملء ستقل حصة مصر والسودان من المياه بمعدل 24 مليار متر مكعب). السودان لديه ما يعوضه من المياه الجوفية والأمطار، لكن الأمر بالنسبة لمصر سيكون كارثيا، ذلك أن كل نقصان في المياه بمقدار مليار متر مكعب سيؤدي إلى فقدان 200 ألف فدان ومعيشة مليون مواطن (متوسط خمسة أشخاص يعيشون على المحصول الناتج عن الفدان الواحد)، ناهيك عن تزايد معدل تراكم الأملاح في الأرض الزراعية في دلتا النيل بشكل كبير، وهو ما سيؤثر على خصوبة التربة.
أيضا تقول بعض الدراسات إن تراكم الطمي داخل بحيرة سد النهضة نتيجة لعدم وجود فتحات كافية عند القاع لتمرير المواد الرسوبية سيزيد من احتمالات انهياره.. نعم انهياره؟! هكذا قال احد أهم الخبراء في (المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيائية) انهيار السد سيؤدي إلى غرق القاهرة في ثلاثة أيام، بعد غرق إثيوبيا والسودان بالطبع، وهذا الكلام يرفضه بعض الخبراء أيضا ويستبعدوه.
لم تلُح مصر بالخيارات العسكرية بالوضوح التام، رغم تشديد لهجة الخطاب في الاعتراض والرفض وترك الباب مفتوحا لكل الخيارات. فالأمر تدخل فيه أبعاد استراتيجية وإقليمية ضخمة، إذ ما معنى أن تؤجر بعض الدول الخليجية ما يزيد على 200 ألف فدان في إثيوبيا؟ وما معنى أن تتولى إسرائيل إدارة مشروعات الكهرباء الناتجة عن السد (6000 ميجاوات)؟ سيكون هاما هنا أن نعرف أن مصر التي يجرى بطولها "النهر الخالد"، كما قال الشاعر الحزين محمود حسن إسماعيل على لسان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.. ضمن قائمة أفقر 30 دولة في العالم من حيث المياه، حيث نصيب الفرد من المياه العذبة 660 مترا مكعبا لكل شخص (المعدل العالمي الصحيح 1000).
"يا ليتني موجة فأحكي إلى لياليكَ ما شجاني".