كتب

روسيا وأمريكا وخفايا الصراع الدولي على بحر قزوين

أغلبية احتياطات النفط والغاز في بحر قزوين لم يتم تنميتها بعد (عربي21)

الكتاب: روسيا الأوراسية كقوة عظمى جيوبوليتيك الصراع وديبلوماسية النفط والغاز في الشرق الأوسط
الكاتب: د. وسيم خليل قلعجية، 
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون،بيروت -لبنان ، الطبعة الأولى ، يونيو/حزيران 2019،
(عدد الصفحات 582 من القطع الكبير)

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في الجزء الرابع والأخير من عرضه لكتاب "روسيا الأوراسية كقوة عظمى جيوبوليتيك الصراع وديبلوماسية النفط والغاز في الشرق الأوسط"، للكاتب وسيم خليل قلعجية، تسليط الضوء على محاور الصراع الرئيسية التي خاضتها روسيا، ولا تزال من أجل تثبيت دورها في العالم، وفي آسيا تحديدا.

ويركز المديني اليوم، على توضيح أسباب وخفايا التسابق الأمريكي ـ الروسي للسيطرة على بحر قزوين، وتبيان الأهمية التي تكتسيها هذه المنطقة.
 
الصراع الدولي على بحر قزوين 

يجمع المحللون الاستراتيجيون في العالم أن "اللعبة الكبيرة الجديدة" على أشدّها، في بحر قزوين وآسيا الوسطى ومعها هذه المرّة في صلب الرهانات: النفط والغاز، حيث إن كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، دول حبيسة، تعتمد على الدول المجاورة لها كوسيط للوصول إلى الأسواق الغربية. وينبغي القول إن جوهر هذه اللعبة الجويبولتيكية الجديدة في آسيا الوسطى مزدوج. الأول، هو السيطرة على إنتاج النفط والغاز، والثاني السيطرة على خطوط الأنابيب التي ستقوم بنقل البترول إلى الأسواق الغربية.  


لكن الطلب على النفط لا يفسّر وحده المعركة التي تخوضها القوى العظمى لوضع اليد على الآبار النفطية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، من آسيا الوسطى إلى بحر قزوين وسط القارة الأوروـ آسيوية، التي تشهد صراعا بين "كبريات" الشركات، التي تمد أنابيب النفط مثل حبال طويلة تسمح للولايات المتحدة الأمريكية، أن تضع يدها على نفط المنطقة وبين الدول الوطنية التي تحاول أن تسيطر على مواردها لخدمة أهداف التنمية. وهناك حقيقة أن الدول الثلاث التي تتقاسم أغلبية موارد الطاقة هي في هذا الإقليم، ويقع في قلب هذا الصراع  بحر قزوين.

الأهمية الاستراتيجية لبحر قزوين 

في ضوء أن كتلة غرب آسيا الممتدة من جنوب روسيا إلى جنوب الخليج العربي، عبر دول القوقاز وبحر قزوين تشكل المستودع الأكبر للعالم بالنسبة للنفط والغاز، فمن المتوقع أن يكون التنافس الدولي على هذه المنطقة ضاريا، وذلك في ضوء أن دول هذه المنطقة هي دول بأغلبيتها متخلفة اقتصاديا وغير قادرة على التحكم بمصير ثرواتها. ومع تزايد التنافس الدولي على الطاقة حدث تحوّل في الصراع والمنافسة على الأرض إلى تنافس وصراع على الطاقة. 

يعتبر بحر قزوين أكبر حوض مائي داخلي في العالم، حيث تبلغ مساحته 376 ألف كلم مربع، ويقع سطحه عند مستوى 9.27 م تحت مستوى سطح المحيط. وهو مسطح مائي مغلق، أثار الكثير من الاهتمام بسبب موقعه المتميز غرب آسيا محاطا بكل من روسيا وإيران وكازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، ومجاورا بذلك الصين والهند وباكستان وأفغانستان في منطقة شديدة الأهمية. 

 

 

يعتبر بحر قزوين أكبر حوض مائي داخلي في العالم، حيث تبلغ مساحته 376 ألف كلم مربع، ويقع سطحه عند مستوى 9.27 م تحت مستوى سطح المحيط.


وتتضارب الأرقام والنسب المتعلقة بحجم الاحتياطي الموجود من النفط والغاز في بحر قزوين بالنظر إلى اختلاف المصادر. وبالنسبة لتقدير حجم الاحتياطات النفطية فقد اختلف الخبراء في تقديرها وإن اتفقوا على أن المنطقة تأتي ـ على الصعيد العالمي ـ بعد منطقة الشرق الأوسط وقبل بحر الشمال من حيث الاحتياطات، وأنه - أي بحر قزوين - يحتوى على ما يتجاوز 68 مليار برميل، وترى تقديرات أخرى أنه يأتي في المرتبة الثالثة بعد الخليج العربي وسيبيريا، وأن الاحتياطات تقدر ما بين 12 و 15 بليون برميل من النفط. 

وفي حين تؤيد العديد من مراكز الدراسات المتخصصة في الولايات المتحدة وإيطاليا الرقم الأدنى، الذي يعني أن نفط بحر قزوين يشكل 2.7% من الاحتياطي العالمي للنفط و7% من الغاز، فإن ما يزيد التنافس في المنطقة هو التوقعات حول ارتفاع هذه التقديرات فيما بعد مع المزيد من الاكتشافات، حيث يُتوقّع أن يرتفع إنتاج النفط في دول بحر قزوين وكذلك أوزبكستان إلى 309 ملايين برميل بحلول عام 2010. وفي تسعينيات القرن الماضي، ضخّمت الولايات المتحدة، لتبرير دخولها حوض بحر قزوين، من تقديراتها للاحتياطي النفطي في هذه القارة، فتحدّثت عن وجود 243 مليار برميل من النفط، أي أقلّ بقليل من السعودية. 

وبالعودة إلى المنطق، تقدَّر هذه الاحتياطيات اليوم بـ 50 مليار برميل من النفط و9.1 تريليون متر مكعب من الغاز، أي ما بين 4% إلى 5% من الاحتياطي العالمي. ويؤكّد ستيف ليفين، الصحفي الأمريكي الذي يتابع هذه المسائل منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أنه إذا كانت الولايات المتحدة قد تجرّأت على هذا الخداع الكبير، فذلك لأنها "أرادت بأي ثمن بناء خط الأنابيب "بي.تي.سي" (خط أنابيب النفط باكوـ تفليس(تبليسي) ـ جيهان)، وقد بذلت كلّ ما هو ممكن في هذا السبيل، إذ كان الأمر يتعلّق باستباق توسّع النفوذ الروسي، وجعله أكثر صعوبة. 

 

 

 

روسيا مثل إيران تعد واحدة من أكثر الدول المهمة المصدرة للنفط ومن ثم لن تكون سعيدة أن ترى منافسين جددا في التصدير خاصة بما يتجاوز سيطرتها.


لقد بلغت صادرات منطقة بحر قزوين خلال عام 2001 حوالي 920 ألف برميل من جملة 1.2 مليون برميل منتج، كما تشهد المنطقة مجموعة من مشاريع النفط التي تهدف إلى رفع الإنتاج في السنوات القادمة، ويمكن أن تزيد صادرات المنطقة الصافية في هذه الحالة لتصل إلى أكثر من 3 ملايين برميل في 2010، كما يمكن أن تزيد بحوالي 2 مليون برميل أخرى بحلول عام 2020. إلى جانب أن بحر قزوين يمثل مأوى أساسيا لأسماك الحفش الذي تنتج منه أغلى وأجود أنواع الكافيار في العالم.

وفي ضوء المشاكل بين الدول المحيطة ببحر قزوين حول سبل الإنتاج وحقوق الاستغلال، والمشاكل المتعلقة بالنقل عبر خطوط أنابيب النفط عن طريق تركيا أو من الخليج العربي عبر إيران، فإنّ المجال المفضل أمام الولايات المتحدة الأمريكية هو منطقة الخليج العربي. وهذا يفسر احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق الذي لا علاقة له بموضوع أسلحة الدمار الشامل، أو موضوع الديمقراطية المزعومة، والولايات المتحدة الأمريكية أيضا ذهبت إلى أفغانستان وجورجيا وكازخستان من أجل نفط بحر قزوين.

ومن جانب آخر، فإن وضع بحر قزوين ارتبط وتَدَاخَلَ بحكم الطبيعة الحبيسة لدول آسيا الوسطى، مع قضية أخرى مهمة؛ هي تلك المتعلقة بخطوط أنابيب نقل النفط والغاز من قزوين إلى الخارج. الأمر الذي ارتبط بأهمية منطقة آسيا الوسطى عموما وقزوين خصوصا، كمنطقة جاذبة للاهتمام الإقليمي والدولي، وساحة للتنافس على النفوذ بين دول النفوذ التقليدي ممثلة في روسيا وإيران، ودول تسعى للسيطرة على المنطقة مثل الولايات المتحدة التي تسعى إلى تقليص أو الإطاحة بنفوذ القوى الأخرى، خاصة ذات النفوذ التقليدي.

أهمية موارد الطاقة في منطقة قزوين:

تعد التنمية الكاملة لاحتياطات بحر قزوين في مرحلتها الابتدائية، حيث أغلبية احتياطات النفط والغاز في المنطقة لم يتم تنميتها بعد. وفي ظل الاحتياطات الثابتة والمتوقعة، فإن المنطقة ليست شرق أوسط جديدا كما تمنى البعض، ولكنها يمكن أن تكون بحر شمال جديدا. وضمن سواحل بحر قزوين فإن إيران أقل الدول اهتماما بسرعة تنمية المعروض النفطي من قزوين، بسبب احتياطاتها النفطية في الأماكن الأخرى، وعدم قدرتها على استغلال الممكن من هذه الاحتياطات بسبب الحظر الأمريكي. 

توجه روسيا مشابه لتوجه إيران، حيث إنها لا تشعر بالرغبة في تنمية احتياطات بحر قزوين؛ لأن لديها بالفعل احتياطات ضخمة ثابتة من النفط والغاز والقدرات الإنتاجية في أماكن أخرى من البلد. الأكثر من هذا، أن الجزء الروسي من قزوين وبالنظر إلى أنه مقسم بالفعل إلى أقسام قومية، لا يعتبر واعدا باحتياطات نفطية.

الأكثر من هذا، فإن روسيا مثل إيران تعد واحدة من أكثر الدول المهمة المصدرة للنفط، ومن ثم لن تكون سعيدة أن ترى منافسين جددا في التصدير، خاصة بما يتجاوز سيطرتها. 

تركمانستان مثل روسيا ليست مهتمة برؤية تنمية شديدة لاحتياطات نفط قزوين، فشاطئها على قزوين هو الأقل اكتشافا من جميع الشواطئ، وفيه قدر ضخم من احتياطات الغاز الطبيعي أكثر من أي مكان آخر في البلد. ومن ثم فإن تركمانستان بالنظر إلى هدفها متوسط الأمد، المتمثل في تنمية بنية أساسية مستقلة لتصدير الغاز، لا تحتاج لأن تمر عبر روسيا. 

أذربيجان وكازاخستان على الجانب الآخر أكثر اهتماما من الآخرين بسرعة التنمية والتصدير من نفط قزوين. ويرجع هذا الجانب إلى أن معظم موارد النفط المؤكدة في المنطقة تتركز بالقرب من سواحلهم، كما أنهم بحاجة شديدة إلى التمويل بالعملات الصعبة التي ستأتي من تصدير النفط، الذي يمكن أن يوسع استقلالهم الاقتصادي والسياسي عن روسيا. 

مع هذا، فإن أيّا من دول بحر قزوين ليس لديها رأس المال الضروري لاستغلال واكتشاف موارد الهيدروكربون الإقليمية، وستحتاج إلى استثمارات أجنبية للمستقبل المنظور. الأكثر من هذا فإن التعقيدات التكنولوجية لاستخراج الرواسب النفطية من تحت البحر، تعقد عملية استغلال بحر قزوين بشكل أوسع. كذلك فإن تنمية أسواق النفط العالمية يمكن أن تؤثر لغير صالح برامج تنمية نفط وغاز قزوين، خصوصا إذا انخفضت أسعار النفط العالمية أو زاد العرض من النفط العالمي بزيادة استخراج النفط من الحقول، التي تم تطويرها حديثا أو من الموردين التقليديين. كما أن نوعية  بترول بحر قزوين تتميز بصعوبات بالغة نتيجة لوجود نسبة عالية من الكبريت، ما يتطلب تمويلا إضافيا لاستخدام أنابيب ذات نوعية تتحمل التآكل بدرجة كبيرة لنقله.

 

 

 

تعتبر قضية بحر قزوين محورية للدور الإيراني في آسيا الوسطى الآن ومستقبلا على أساس اختلاف توجهات ومصالح إيران عن العديد من دول المنطقة


إن التطورات التي شهدتها المنطقة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) أدت دورا كبيرا في توجيه علاقات واشنطن بموسكو وطهران، وتزايد القلق الإيراني من وجود القوات الأمريكية أو الوجود الأمريكي الغربي المباشر لأول مرة بعد أن كان وجودها غير مباشر، وهو ما يعني التأثير في موازين الأوضاع الخاصة ببحر قزوين والمنطقة، التي تدرك إيران أنها ليست في مصلحتها استنادا للسعي الأمريكي المستمر لتهديد مصالحها في المنطقة، ودعمها لأطراف ومواقف قد لا تتلاءم مع مصالح طهران. 

من الناحية التاريخية تعتبر قضية بحر قزوين محورية للدور الإيراني في آسيا الوسطى الآن ومستقبلا، على أساس اختلاف توجهات ومصالح إيران عن العديد من دول المنطقة، إلى جانب العامل الخارجي المتمثل في دعم قوى دولية لأطراف إقليمية لحماية مصالحها أو السعي لتقليص الدور الإيراني في المنطقة. 

ويجمع المؤرخون أن أجزاء من آسيا الوسطى كانت واقعة تحت السيطرة الإيرانية في منتصف القرن الثامن عشر وتحديدا في عهد السلطان نادر شاه، إلا أن الحكومة الروسية بسطت سيطرتها على الإقليم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. هذا ومن الناحية الجغرافية تشترك إيران بحدود طويلة مع دولتين هما أذربيجان وتركمانستان، كما تشترك مع أذربيجان وكازاخستان في الوقوع على بحر قزوين. أما من حيث الأبعاد الثقافية والتاريخية، فنجد أن إيران لما يقرب من ألفي سنة كان لها الدور الرئيسي في آسيا الوسطى والقوقاز، وامتد نفوذها في فترات متقطعة إلى دول المنطقة، وخلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين كانت هذه الجمهوريات تتحدث اللغة الفارسية. 

كما تشترك إيران ديموغرافيا مع إحدى القوميات، حيث يوجد إيرانيون أذربيجانيون لا يمكن تمييزهم عن القومية السائدة في جمهورية أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية. وينتمي أغلبية سكان آسيا الوسطى إلى المسلمين السنّة ـ باستثناء أذربيجان فهي شيعية ـ وينقسمون إلى ثلاث مجموعات عرقية، أهمها مجموعة الشعوب التركستانية (58% من المسلمين) وتضم أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرقيزيا، وهم يتحدثون لغة قريبة من التركية وأقرب حضاريا وثقافيا إلى تركيا، ومجموعة الشعوب الإيرانية (8.4% من المسلمين) ويتمركزون أساسا في طاجاكستان وهم أقرب حضاريا وثقافيا إلى إيران، حيث تغلب عليهم اللغة والثقافة الفارسية ولكنهم سُنّة. 

 

 

اقرأ أيضا: نفط الشرق الأوسط جلب القوى الاستعمارية وحرك أطماعها

 
اقرأ أيضا: التنافس الأمريكي-السوفييتي وسياسة الدم مقابل النفط

اقرأ أيضا: السيطرة على العالم العربي في قلب الصراع الروسي ـ الأمريكي