قضايا وآراء

فوائد الهجرة المنسية في أوروبا

1300x600

أسوأ ما يحدث لقضية إنسانية أن تصبح عرضة للتجاذبات السياسية والانتخابية. ففي وسط المزايدات تضيع المعلومات، وتكثر الأخبار المزيفة، وتشتعل نيران النعرات القومية.

ولم تتعرض قضية للمزايدات السياسية في أوروبا أكثر من قضية الهجرة واللجوء. فهي شماعة من لا شماعة له؛ يعلق عليها ما يشاء من فشل اقتصادي وسياسي واجتماعي. وهي حصان طروادة للسياسيين المزيفين إلى مقاعد البرلمان والسلطة، بعد اللعب على مشاعر الخوف.

 

قضية الهجرة واللجوء هي شماعة من لا شماعة له؛ يعلق عليها ما يشاء من فشل اقتصادي وسياسي واجتماعي

المهاجرون لا بواكي لهم.. أوطانهم التي أتوا منها عادة لا تأبه لهم ولا لحقوقهم، وليست هناك جماعات ضغط سياسية تدافع عنهم وعن حقوقهم. أما مشاركتهم في السياسة فحدث ولا حرج، فالجيل الثاني والثالث بالكاد وصل لمقاعد البرلمان، ومعظم أبناء الجيل الأول وحتى الجيل الثاني ينظرون للسياسة نظرة استهجان وربما خوف، قياسا على دول القهر والحرب التي وفدوا منها.

الجهات الوحيدة التي تدافع بصدق عن المهاجرين هي ربما الجماعات والمنظمات الحقوقية، وهي محدودة التمويل والتأثير مقارنة بالجهات السياسية والإعلامية ذات التمويل الخيالي، ناهيك عن دور رجال الأعمال وممولي الأحزاب وصراع الفيلة في كل دولة؛ للفوز بمغانم اقتصادية وعقود ضخمة بين الشركات الكبرى.

هل يعني هذا أن قضية المهاجرين في أوروبا التي تتصدر أجندات السياسيين والمؤتمرات الدولية والبرامج الانتخابية؛ هي قضية إنسانية بحتة؟ في الحقيقة لا، فكل المؤشرات والدراسات تشير إلى أن معظم (إن لم يكن كل الدول الأوروبية) بحاجة إلى أعداد هائلة من المهاجرين لأسباب اقتصادية واجتماعية، وهي حاجة تفوق ما يفد إليها من مهاجرين بطرق شرعية وغير شرعية. تكمن المشكلة إذا في التوظيف السياسي لهذه الحقائق؛ ما بين تيارات أوروبية يسارية ضعيفة ذات موقف غير هجومي ضد المهاجرين، وبين تيارات يمينية تزيّف الأرقام وتلوي أعناق الحقائق من أجل مكاسب انتخابية قصيرة الأجل.

 

كل المؤشرات والدراسات تشير إلى أن معظم (إن لم يكن كل الدول الأوروبية) بحاجة إلى أعداد هائلة من المهاجرين لأسباب اقتصادية واجتماعية، وهي حاجة تفوق ما يفد إليها من مهاجرين بطرق شرعية وغير شرعية

خلال عقدي الخمسينيات والستينيات في بريطانيا مثلا، لم يكن الحال كذلك. كانت هناك رغبة جامحة في استجلاب أيدي عاملة لبناء البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تكن هناك وسيلة لإرغام العمال للقدوم من المستعمرات القديمة، بعد أن نالت معظم الدول استقلالها، ولم تكن هذه الدول وصلت لتلك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السيئة التي نراها اليوم، فما كان من بريطانيا إلا أن قدمت حوافز رهيبة لهؤلاء العمال.

وأذكر أنني اطلعت على فيلم وثائقي دعائي صدر خلال الستينيات؛ يتحدث عن المعاملة الكريمة للعمال المسلمين في المصانع واحترام حقوقهم وحرياتهم ودعوتهم لأن يأتوا للعمل في بريطانيا.

لم تتغير الرغبة الأوروبية في استجلاب الأيدي العاملة، ما تغير فقط هي أحوال دولنا العربية والإسلامية، فأصبحت طاردة للسكان بسبب الفساد السياسي والاقتصادي، فلم تعد هناك حاجة للقيام بمجهود لاستجلاب العمالة منها.

 

ما تغير فقط هي أحوال دولنا العربية والإسلامية، فأصبحت طاردة للسكان بسبب الفساد السياسي والاقتصادي، فلم تعد هناك حاجة للقيام بمجهود لاستجلاب العمالة منها

صحيفة التايمز البريطانية نشرت قبل أسبوعين مقالا للكاتب "روجر بويز" يوضح كيف أن ملايين المهاجرين الجدد الذين فتحت ألمانيا الباب لهم خلال عهد المستشارة الحالية أنجيلا ميركل؛ قد عوضوا انخفاض نسبة المواليد في البلاد، وكيف أن إحصاءات سوق العمل هناك تشير إلى أن ثلث المهاجرين الذين قدموا من سبع دول أساسية هي العراق، وسوريا، والصومال، وإيران، وباكستان، وإريتريا، وأفغانستان؛ يملكون وظائف رسمية ويدفعون الضرائب.

تُقدر أعداد اللاجئين في أوروبا بالملايين، وكثير منهم للأسف لا يملكون الوعي أو الأدوات الكافية ليدافعوا بها عن أهمية وجوده في هذه البلاد، مما يعني أن هذه القضايا يجب أن تخطو خطوة أخرى للأمام، وأن يأخذ المهاجرون الأمر بأيديهم للقيام بحملات توعية، ورصد ميزانيات كبيرة لهذه الأمر؛ ممولة من رجال الأعمال المهاجرين، لتكوين جماعات ضغط أو كما يطلق عليها "لوبيات" لنشر الإحصاءات الرسمية عن أهمية دور المهاجرين والتواصل المستمر مع السياسيين ووسائل الإعلام. الأمر لم يعد رفاهية بعد أن وصلت التيارات اليمينية لأقصى وقاحة لها في تضليل الناخبين والصعود على سلم الخوف إلى مواقع هامة؛ بشكل بات يهدد السلم الاجتماعي في أوروبا كلها.