مقالات مختارة

الفضاء والعرب.. بين العلم وأمور أخرى

1300x600

في كل صيف؛ يتساءل الملايين من الطلبة العرب: أي كلية يلتحقون بها بعد الدراسة الثانوية؟ ‏وأي مصير ينتظرهم بعد التخرج؟ ‏ومن ثم، تنهال النصائح يمينا ويسارا، كاتمة في أغلبها روح المغامرة الفطرية وجموح أحلامهم في ‏تلك القرارات المصيرية، لتذكّرهم بقساوة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري الذي نعيشه، ‏والذي يرفض المغامرة ويرى أن الواقعية المادية هي الطريق "المضمون" للعمل والزواج، وتحديد ‏كل قراراتك منذ ولادتك وإلى تعيين مكان مدفنك.‏


في هذا الواقع وليس بغيره؛ وُلدتُ وتربيتُ في أسرة مصرية بسيطة، ‏انهارت فيها أمي حزنا حينما ‏رفضت الالتحاق بكلية الصيدلة والزواج ‏من قريبتي، التي كانت ستساعدني للعمل في صيدلية بعد ‏التخرج، لكي ‏ألتحق بكلية العلوم قسم الفلك بجامعة القاهرة في رحلة مهنية مجهولة، ‏وفي غياب ‏وظيفة حقيقية تؤهلني لها دراستي للعلوم في عالمنا العربي.


واليوم، بعد أكثر من عشرين عاما من العمل في وكالة ناسا لأبحاث ‏الفضاء بالولايات المتحدة، ‏ومراكز بحثية مرموقة في جامعات كاليفورنيا ‏وباريس؛ كشف لي طريق العلم والمعرفة أننا لم نأتِ ‏إلى هذا الكوكب ‏كي نكون نسخة من أجدادنا، وأننا لسنا هنا فقط لنعيش الواقع، بل - وهو ‏الأهم - لكي ‏نغيره.
وليست الدعوة للتجربة الجريئة بدعوة للجنون أو التشبه بالغرب، بل هي ‏دعوة للتعلم وتمثل ‏التجربة وشجاعة خوضها جزءا أساسيا منها، فالقرار ‏العاقل لا ينبع من عقل خائف.


ولعل جذور الخوف لدى طلابنا في تقرير المصير المعرفي في عالمنا ‏العربي، تنبع من ثقافة ‏البحث عن ضمانات مهنية للنجاح، عوضا عن ‏الاستعداد للمخاطرة والتأقلم مع المتغيرات، وهي ‏صفات تغيب عن ‏المنظومة التعليمية والتربوية التي يطغى عليها طابع الطاعة المطلقة، ‏بدلا من ‏القدرة على التساؤل والتحليل والإقناع. ‏


أضف إلى ذلك الموروثات الاجتماعية الخاطئة عن وجود ما يسمى ‏‏"كليات القمة"، و‏ظهور التصنيف العالمي للجامعات؛ التي جعلت كل ‏همها تركيز الاختيار على مكان الدراسة أكثر ‏من نوعها. وباختيار ما هو ‏مقبول اجتماعيا قبل ما هو مرغوب معرفيا لدى الطالب، يفقد العالم ‏‏العربي عددا كبيرا من الموهوبين في مجالات عدة.‏


في اكتشاف الفضاء عِبَر مهمة لمجتمعنا العربي؛ فقد لا يعرف كثير من ‏الطلبة العرب أن نِيل ‏أرمسترونغ - وهو يقوم بخطواته الأولى على سطح ‏القمر- كان طالبا مسجلا بالدراسات العليا ‏بجامعة سوثرن كاليفورنيا، التي ‏أشرُف بالعمل فيها وفي كلية الهندسة نفسها التي تخرج هو منها.


فلم يكن أول إنسان يمشي على القمر مجرد رائد فضاء، بل كان طالبا ‏أيضا، وحصل على درجته ‏العلمية بعد أقل من عام من عودته إلى ‏الأرض. ‏ولم تكن حقبته في أواخر الستينيات من القرن الماضي -التي ‏نجح فيها مشروع الفضاء "أبولو" ‏بإنزال إنسان على القمر- فترة مزدهرة ‏أو مستقرة، بل على العكس كانت أشبه بما نعيشه اليوم في ‏منطقتنا.


فقد كانت الولايات المتحدة في ذروة خسارتها للحرب في فيتنام، واغتيل ‏رئيسها جون كيندي ‏المؤسس لمشروع الفضاء "أبولو"، واغتيلت أيضا ‏قيادات المجتمع المدني المؤثرة مثل دكتور كينغ ‏الحاصل على جائزة ‏نوبل للسلام ومالكوم إكس، وغيرهما ممن حاربوا العنصرية العرقية.


وأبعد من ذلك؛ كان هناك أيضا اتهام لوكالة ناسا بالفشل المتكرر وإهدار ‏المال العام في المراحل ‏الأولى من السباق مع مشروع الفضاء الروسي، ‏وأُلقي باللائمة في كل أزمة على تعيين قيادات ‏وباحثين بها من اللاجئين ‏الألمان، الذين اتهِموا بالانتماء للنازية وبتسمية "ناسا" على اسم قريب ‏من ‏اسم الحزب "النازي". ‏وكان كثير من القوميين في تلك الفترة يرون أن ‏هؤلاء الأجانب ينفقون أموال الشعب الأمريكي ‏دون أي عائد يذكر.‏


وجاء نجاح مشروع الفضاء "أبولو" - بعد سنوات من التجارب، بفضل ‏الصواريخ التي طورها العالم ‏الألماني فون براون وفريق كبير من ‏العلماء الألمان الذين هجروا الحرب- ليؤسس مبدأً جديدا في ‏المجتمع ‏الأمريكي، هو أن المعرفة هي أساس الهوية والانتماء وليس أي شيء ‏آخر.


وفي ذلك درس مهم لمجتمعاتنا العربية خاصة دول الخليج التي إذا ما ‏استطاعت استيعاب ‏المهاجرين الموهوبين وجذبهم إليها وتوطينهم، ‏فسوف تبني نهضة حضارية تمتد غربا إلى كل ‏أنحاء الوطن العربي.‏


وبالعودة إلى علم الفضاء؛ فإنه يُعرف بأنه العلم المختص باكتشاف ‏الكواكب والأقمار والأجرام ‏السماوية البعيدة بهدف فهم نشأة وتطور ‏الكون، بما في ذلك المجرات والمجموعة الشمسية وكوكب ‏الأرض.‏
وهو بذلك علم أساسي لفهم التغيرات التي يمر بها كوكب الأرض، ومن ‏دونه يصبح الإنسان غير ‏قادر على التعامل مع ظواهر مثل التغير ‏المناخي وشح المياه، ورصد المخاطر الطبيعية مثل ‏الزلازل والبراكين ‏والأعاصير وسقوط النيازك، ومثل تلك التي أدت إلى انقراض ‏الديناصورات.


عرف العلماء العرب حركة القمر بدقة وفهموا انتظامها، واحتسبوا ‏الشهور القمرية وجعلوا منها ‏أساس تقويمهم، واهتدوا بضوء القمر ‏ومواقع النجوم للملاحة والسفر في الصحراء. ‏ومن المثير للدهشة أن ‏الحضارة التي أسست لهذا العلم أصبحت اليوم هي الأكثر نشرا للمفاهيم ‏‏الخاطئة المرتبطة به.
يحتفل العالم بمرور خمسين عاما على إنزال أول بَشري على ‏القمر؛ يرى كثيرون منا أن ‏الأمر مجرد أكذوبة سينمائية، بينما يردد ‏آخرون قصصا عن أن أحد رواد الفضاء سمع الأذان وهو ‏على القمر، ‏فأشهر إسلامه حين عاد إلى الأرض.‏


هذا بالإضافة إلى مبالغات مثل أن العرب هم من ‏حددوا مكان النزول ‏الأول على القمر، ناهيك عن الأخبار اليومية عن رواد الفضاء العرب ‏الذين ‏يحملون صور حكامهم إلى الفضاء، وأيضا عمن يرون أن الأرض ‏مسطحة أو أننا نستطيع ‏مغادرتها أصلا.


أضف إلى كل ذلك التخبط السنوي الدائم في تحديد بداية شهر رمضان ‏وعيد الفطر وبداية ‏موسم الحج، وكأن حركة القمر المنتظمة قد تحولت ‏إلى ما هو أشبه بحركة المرور في شوارعنا، ‏لا يتفق اثنان في وصفها.‏


والسؤال المطروح هو: لماذا يرتبط تفشي المفاهيم الخاطئة بعلم الفضاء ‏أكثر من بقية العلوم الأخرى، وهو العلم ‏الذي أسسه العرب؟ ولماذا ‏تراجع دور العلم في المجتمعات العربية على مر القرون الخمسة ‏‏الماضية بعد فترة طويلة من الازدهار؟ ونستطيع تلخيص الإجابة في نقاط مترابطة:‏


الأولى؛ هي تعاقب حكم الطغاة الذي استبدل الحاكم القوي بسلاحه بمبدأ ‏الحاكم الرشيد بعلمه، ‏فكان هذا سببا في غياب أهل العلم عن دوائر صنع ‏القرارات الاستراتيجية


الثانية؛ هي أنه في ظل غياب الحريات الفكرية الناتجة من السبب ‏الأول، تُقدَّم الاكتشافات العلمية على أنها نتاج ‏فكري غربي لا يمت بصلة للواقع العربي، فترى غالبية مجتمعاتنا تحتفي بحرارة بنجاح ‏أبنائها في الخارج، وتبقى ‏خجولة في محاربة الموروثات الخاطئة التي ‏تعوق صناعة النجاح في الداخل.‏

 

عن صحيفة الشرق القطرية