أفكَار

تونس.. كتاب عن الخلفاء وحجرة جديدة في مياه صراع الهوية

كاتبة تونسية تعيد الجدل حول الهوية بنشر كتاب ينتقد تجربة الخلفاء الراشدين (عربي21)

لم يكد السّجال الفكري حول كتاب "الأيام الأخيرة لمحمد" الصادر منذ ثلاثة أعوام يضع أوزاره، حتى انفلت عقال مراء واسع جديد مداره صدور كتاب  " LES CALIFES MAUDITS"( الخلفاء الملعونين) لنفس الكاتبة هالة الوردي، الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية وأستاذة الأدب الفرنسي بالجامعة التونسية، خاصّة بعد وصف المؤرخ هشام جعيّط للمؤلف الجديد بـ"الرواية التاريخية ذات المنحى الإيديولوجي".

أكّدت هالة الوردي، خلال استضافتها في قناة "فرنسا24"، أنّها لا تدّعي تقديم أطروحة جديدة وإنّما عملت على جمع شتات نصوص تراثية سنيّة وشيعيّة ثمّ قامت بـ"تصالح" فيما بينها. فما الذي غذّى هذا السّجال الجديد حول موضوعات طالما شكّلت حطب الصّراع حول الهوية في تونس؟ 

في جذور سجال الهوية في تونس

شكّل البيان الممهور بتوقيع عبد الفتاح مورو يوم 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 والمطالب بإقالة وزير التربية الأسبق اليساري الراحل محمد الشرفي (1989 ـ 1994)، على خلفيّة ما اعتبره البيان آنذاك بـ"السياسة التربوية المعادية للإسلام"، فورة احتدام صراع الهوية في تونس. وقد مثّل حدّي الصراع وقتها حركة "النهضة" (حركة الاتجاه الاسلامي قبل 8 شباط / فبراير 1989) واليسار المتمترس بالسلطة ممثّلا أساسا في محمد الشرفي، وزير التربية والرئيس الأسبق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

لم تمهل دكتاتورية الجنرال الخصوم الإيديولوجيين المزيد من الوقت لحسم الصراع السياسي ولبوسه الفكري، فقد فُتحت أبواب السجون مشرعة أمام الإسلاميين مع بداية التسعينيات وأُقيل محمد الشرفي من رأس وزارة التربية سنة 1994. لتُصادر بذلك الدولة الأمنيّة الجديدة جدل الصراع المجتمعي حول الهوية وتحتكر لنفسها حق تكييفه وفرض تمظهراته السلوكيّة الممثلة أساسا في إعادة تفعيل المنشور عدد 108 الصادر عن وزارة التربية سنة 1981 القاضي بمنع ارتداء الحجاب.

مثّل بيان 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2005 للحقوق والحرّيات منعرجا حاسما وغِمدا لسيوف التطاحن الفكري التي وسمت علاقة مختلف التعبيرات الاجتماعية والسياسية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. فقد شكّل البيان وورشات الحوار التي سبقته مدرجا لتغليب المشترك السياسي المتمثل حينها في مقارعة الدكتاتورية وتأجيل النقاش في كل ما يتعلّق بالتباينات الفكرية.

بهبوب نسمات الربيع العربي وانفلات زخم المواعيد الانتخابية في فضاء تونسي منفتح على مختلف التعبيرات الفكرية والسياسية، طفت تجاذبات الهوية على السطح من جديد. فبدأُت بالفيلم الإيراني "بارسيبوليس" الذي بثته  قناة "نسمة" قبيل انتخابات تشرين أول (أكتوبر) 2011، مرورا بعرض فيلم "لا ربي لا سيدي" للمخرجة نادية الفاني ووصولا لموجات التعرّي لناشطات "فيمن".


هذه المحطات المختلفة مثلت فضاء مراء وسجالا كبيرا في الشارع والإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لم تخل من تبادل للعنف الرمزي وحتى المادي. وبصدور دستور الجمهورية الثانية في كانون الثاني (يناير) 2014، بدأ يغلب التدافع السياسي بين فسطاطي صراع الهوية، وربما ما ساعد على موجة التهدئة هذه التوافق السياسي الحاصل في هرم السلطة بين الحزبين الفائزين في انتخابات تشرين أول (أكتوب)ر 2014 حركة "النهضة" وحركة "نداء تونس"، التي كان يقودها الرئيس الرّاحل محمد الباجي قائد السبسي.

"الخلفاء الملعونون" وحزمة الدعاوى الجديدة

بحسب حوارها في قناة "فرنسا24"، اعترفت هالة الوردي بأنّ كلّ ما ورد في كتابها الأخير "الخلفاء الملعونين"، وهي الترجمة الأقرب لعنوان النسخة الفرنسية للكتاب "Les califes maudits"، ليس إلاّ تجميعا وإعادة قراءة لنصوص تراثيّة إسلاميّة أو ما أسمته بـ"تصالح بين النصوص"، مشيرة إلى أنّ كتابها الجديد هو مواصلة وتتمّة لكتابها "الأيّام الأخيرة لمحمد" الصادر سنة 2016.

وتدافع هالة الوردي على فكرة أن الرسول قد قتل مسموما من قبل أصحابه (الخلفاء)، الذين تسمهم بالغدر والانتهازية. وتقول إنها اعتمدت على صحيحي البخاري ومسلم في إثبات فرضياتها. مدّعية أنّ "الصراع بين السنة والشيعة بدأ بتغييب عائلة الرسول المصغّرة من مشاورات تعيين الخليفة بعد موته".
 
بحث علمي أم رواية تاريخيّة؟

أثار صدور "الخلفاء الملعونين"ردود أفعال متباينة. المؤرخ والمفكّر هشام جعيّط، في تصريح لجريدة الصباح التونسية في نيسان (أبريل) 2019، رأى في الكتاب تحايلا فظّا على التاريخ لافتقاده للقراءة المعمّقة للمصادر والمراجع وفق وصفه. مضيفا في ذات السياق، أن المؤلّف لا يعدو أن يكون سوى "رواية تاريخية من صنف الأدب الروائي وهي ذات منحى أيديولوجي". كما اعتبر المؤلف مهاجمة وتحقيرا لفترة مهمة من تاريخ الإنسانية أعطي شكل الرواية وأعطي من وراء ذلك للرواية شكل التاريخ المدقق والموثق.

 



الباحث في الحضارة العربية سامي براهم، وفي معرض ردّه على كتاب "الخلفاء الملعونون" ومؤلفها السابق "الأيّام الأخيرة للرسول"، نحى منحى جعيّط في نقده لما حبّرته وردي، حيث أكّد لـ "عربي21"، أنّ الكتاب الأخير لا يعدو أن يكون سوى سرديّة أدبيّة وأن ما يقوّض طروحاتها الهشّة هو اعتمادها على "عملية جمع مجتزئ انتقائي لنصوص موجودة في كتب التراث دون تمحيص ودون تدقيق".

 



ويرى براهم أن جماع فكرة كتابي الوردي المتمثّل في موت الرّسول مسموما وغدر أصحابه به وتسميمه والتقاتل على الحكم من بعده قد بني على نصوص تراثية سنية وشيعيّة ضعيفة، مؤكّدا أنّ صحيحي البخاري ومسلم يرويان روايات ويرتبانها حسب درجة الصحة وأحيانا عدّة يكذبان نفس الرواية في نفس الكتاب. ولذلك فشلت وردي، غير المختصة لا في الحديث ولا في اللغة ولا في التاريخ، في إثبات فرضيّتها المتهافتة على حد قوله.
 
فرج معتوق، أستاذ التعليم العالي المختص في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة وتاريخ الحضارة الإسلامية بجامعتي تونس 1 وباريس 7، أكّد بدوره، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ مقاربة هالة الوردي في كتابيها "الأيام الأخيرة في حياة محمد"، و"الخلفاء الملعونون"، تشكو من عدة مطبّات إيثيقية وعلمية جعلتها تسقط في مغالطات تاريخية ومنهجية وعلمية كبيرة". مضيفا أنها في "زيارتها" للوثائق أغفلت جانبا مهمّا يتمثل في كيفية استنطاق وقراءة الوثيقة بشكل صحيح وهذا أمر صعب لا يأتي إلا بالدّربة وحذق الصنعة التي لا يمتلكها إلا المؤرّخ على حد قوله.

 



في المقابل، اعتبر عميرة عليّة الصغيّر، الجامعي المختص في التاريخ المعاصر ومدير وحدة البحوث والدراسات التاريخية بالمعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، أن الباحثة هالة الوردي ورغم عدم تخصصها في مجال الدراسات التاريخية فإنّها استجابت لشروط البحث التاريخي وأجهدت نفسها في فضح الثقافة التمجيدية التي تملّكت ذهنية العديد من الباحثين.

 



وبسؤال "عربي21" عن الموقف من ردود المؤرخ هشام جعيّط ووصفه لكتابي هالة الوردي بالرواية الأدبية التاريخة ذات المنحى الاديولوجي، صرّح عميرة أنه كان يأمل لو بنيت تصريحات جعيّط على أسس علمية وبحثية. مضيفا أن الأجدى هو الرد على البحوث العلمية ببحوث من مثيلاتها لا أن يظلّ اعتبار البحث التاريخي: "وقفا أو أحباسا لباحثين دون غيرهم".

شكري المبخوت، الجامعي والأديب، وفي تدوينة فايسبوكية منسوبة له، أكّد ما ذهب إليه المؤرخ علية عميرة من اعتبار تعليق جعيط على كتابي هالة الوردي لا يرقى لمرتبة النقد العلمي. معتبرا أنّها ليست المرّة الأولى التي ينتصب فيها الأستاذ جعيّط محقّرا لأعمال تونسيين آخرين". مضيفا في ذات السياق أن تصريح جعيّط هو " تعال ومصادرة للمعرفة ولحرية البحث العلمي".

لئن شكّلت الفترة الانتقالية اللاحقة لثورة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 ـ 14 كانون الثاني (يناير) 2011 أرضيّة خصبة لانتعاش الطفيليّات الفكريّة التي استرعت جانبا مهمّا من التغطية الصحفية والإعلاميّة على حساب موضوعات حسّاسة وأكثر جديّة، فإنّ طيفا واسعا من المتابعين للشأن التونسي يأملون في تجاوز هذا المراء الهووي نفل الكلام والدفع نحو تنضيج طروحات فكرية عميقة تتعدّى مرسى التوظيفات السياسية، خاصّة في ظل خفوت حدّة صراع الهوية لدى النخبة التونسية بعد حصول الإجماع على دستور كانون الثاني (يناير) 2014 وغلبة أجندة تركيز المؤسسات الدّستورية واستكمال استحقاقات انتخابية كلبنات أساسية لإنجاح ما تبقى من الانتقال الديمقراطي.

 

*صحفي وإعلامي تونسي