كتاب عربي 21

لشهاب الدين السوداني إخوة كُثْر

1300x600

ابتلى الله السودان مجددا بطغمة عسكرية، حلّت قبل شهرين وبضعة أيام محل حكومة العسكري عمر البشير، بزعم أنها جزء من الحراك الشعبي، الذي استبسل لإزاحة البشير على مدى أربعة أشهر، ثم طفقت تلك الطغمة في استهداف الثوار عصب ذلك الحراك، وصولا إلى تقتيل وجرح المئات منهم في فجر اليوم الأخير من رمضان.

 

قول العسكر وفعلهم


"أسمع كلامك يعجبني؛ أشوف أفعالك أتعجّب"، مثل شعبي بليغ عن مخالفة القول للفعل، ولكن وفيما يلي العسكر الذين استولوا على الحكم مؤخرا في السودان لا كلامهم ولا أفعالهم تثير الإعجاب، ففي هذين الصددين ينطبق عليهم المثل المصري "يقوم من نقرة يقع في دحديرة".

 

الجندي النظامي يرفع السلاح ضد مواطنيه في غالب الأحوال بأوامر ممن بيدهم الحل والعقد من السياسيين،


تنظر إلى صدورهم المطرزة بكامل طيف قوس قزح، فتحسب أنهم شاركوا في معارك القادسية وعين جالوت ونورماندي، وأنهم بالتالي من طراز مونتجمري وروميل وسعد الدين الشاذلي، وتتساءل: لَم يخص أي منهم حربا ضد عدو حقيقي، فمن أين لهم كل هذه النياشين؟ ثم تتذكر أنهم حاربوا بالفعل، ولكن ضد أبناء وبنات بلدهم، ونالوا التكريم من حكام طغاة سعوا لاستدامة سلطانهم باستخدام الجيوش النظامية للقضاء على كل صوت يعارضهم.

وبالتأكيد فإن الجندي النظامي يرفع السلاح ضد مواطنيه في غالب الأحوال بأوامر ممن بيدهم الحل والعقد من السياسيين، ولكن بقاء الجيوش رهن إشارات الحكام في العالم العربي يُبعد عناصرها عن المهنية، فتنسى أنها معنية بأمن الوطن، وينشأ كبار الضباط على عقيدة "من يتجوز أمي أقول له يا عمي"، والتي تتطلب الانصياع الكامل لإرادة الحاكم وحسب.

 

تاريخ الجيوش العربية

صدر لكينيث بولاك الضابط السابق في المخابرات المركزية الأمريكية بالإنجليزية كتاب "تاريخ جديد للجيوش العربية"، يطرح فيه السؤال: لماذا ظل أداء الجيوش العربية ضعيفا؟ ويستدل بولاك، الذي يعتبر من العارفين بأمور الحكم والسياسة في الشرق الأوسط، في عجالة بالأداء الضعيف للجيوش العربية في حروب 1956، و1967، و1973، وحرب العراق مع إيران، ثم حرب ليبيا مع تشاد (انتهت بوقوع القائد العسكري للجانب الليبي خليفة حفتر في قبضة القوات التشادية).

 

في حكم النادر أن تجد ضابطا في القوات المسلحة يتخطى رتبة عميد ما لم يكن مرضيا عنه من قِبل الحكومة المعنية


يقول بولاك إنه ومنذ عام 1945 خاضت الجيوش العربية العديد من الحروب أظهر خلالها قادتها افتقارهم لروح المبادرة والمناورة والابداع وتغيير التكتيك خلال المعارك استجابة للمستجدات الميدانية، كما أثبتت تلك الجيوش، برغم امتلاكها للعتاد المطلوب في الحروب افتقارها- على وجه الخصوص ـ للقدرات القتالية في المعارك الجوية ولاستخدام أنظمة الدفاع الجوي في معارك أرض ـ جو.

ويدحض بولاك الرأي القائل بأن الدول العربية التي حاربت إسرائيل مرارا ذاقت الهزيمة بسبب اعتناق جنودها للعقيدة القتالية السوفيتية، لأنه وبرغم أن مصر وسوريا مثلا ظلتا ولسنوات طويلة تعتمدان على الاتحاد السوفييتي في مجال التسليح، إلا أنه لم يكن للسوفييت شأن بتدريب جيشيهما بدرجة تؤثر على عقيدتهما القتالية؛ إذا كانت هناك ثمة عقيدة من هذا النوع، بينما كان تسليح وتدريب الجيش الأردني بريطانيّاً.

 

ينفي بولاك تماما الجبن عن الجندي العربي، بل يقول عنه إنه مصادم ومقدام في ساحات القتال


ويستشهد بولاك فيما ذهب إليه بالتقدم الذي أحرزه الجيش السوري في بدايات حرب 1973 لاستعادة الجولان، فبعد اختراقه للخطوط الأمامية للجيش الإسرائيلي أوقف تقدمه، "ولو واصلوا التقدم واحتلوا الجسور الثلاثة على نهر الأردن لكانت فرصتهم في استرداد الجولان كبيرة وربما كان في مقدورهم عبور الخط الأخضر إلى قلب إسرائيل"، ولكن تقاعس القادة العسكريين السوريين عن تلك الخطوة، أعطى الإسرائيليين الفرصة لاستقدام تعزيزات نجحت في إرغام الجيش السوري على التقهقر باتجاه دمشق، وفي هذا قال العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري وقتها، إن القادة الميدانيين أخطأوا في تقدير الموقف.

وينفي بولاك تماما الجبن عن الجندي العربي، بل يقول عنه إنه مصادم ومقدام في ساحات القتال، وبالتالي فأُس العلة هم طبقة الضباط، الذين يتحول كبارهم إلى أدوات في أيدي الحكام، بل من المعروف في العالم العربي، أنه في حكم النادر أن تجد ضابطا في القوات المسلحة يتخطى رتبة عميد ما لم يكن مرضيا عنه من قِبل الحكومة المعنية، وبتسييس المناصب العليا في الجيوش تتم التضحية بالتدريب والضوابط المهنية، لأن مهمة الجيش الأساسية تصبح حماية "النظام".

 

في الحرب بين إيران والعراق كانت ضربة البداية للعراق بطلعات جوية وهجمات أرضية حسنة التنسيق والإعداد، ولكن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي لم تكن لديه أي خبرة عسكرية، ظل يتدخل في أمر إدارة وتقييم المعارك، فصار كبار ضباط الجيش العراقي يتبارون لاكتساب مرضاته بالانصياع لتوجيهاته، أو عدم الاعتراض عليها حتى وهم يدركون أنها ستكون كارثية العواقب، وقد كان في حرب 1973 نجح القادة المصريون في عبور قناة السويس شرقا وتدمير الاستحكامات الإسرائيلية في غرب سيناء، ولكن الرئيس المصري أنور السادات الذي هجر العسكرية قبلها بواحد وعشرين سنة وهو برتبة بكباشي (مقدم)، تولى بعد ذلك إدارة العمليات الحربية، فكانت النتيجة أن قام الجيش الإسرائيلي بعبور عكسي إلى غرب القناة واحتلال جانب منها، فيما باتت تُعرف بثغرة الدفرسوار.

في عام 1987 قرر الزعيم الليبي معمر القذافي شن حرب على تشاد لاحتلال منطقة أوزو، ورغم أن الجيش الليبي كان متخما بالعتاد الحربي، إلا أنه كان قد خضع للتجريف في ظل سياسات القذافي الرامية لتدجينه حتى لا ينقلب عليه، وزج القذافي بالجيش في تلك الحرب تحت قيادة سياسية فكان أن مُنِيَ بهزيمة مخزية.

والشاهد: إذا كانت قيادات الجيش السوداني اليوم تبدي عداء للمواطنين الذين ينشدون الحرية وتغيير الحال الراهن، ويتكشّف عجزها في كل ميدان تحاول ولُوجَه، فمنشأ هذا تربيتهم؛ فهم كرفقائهم في بقية الجيوش العربية، تربوا على السمع والطاعة لصاحب السلطة السياسية، فصاروا بلا إرادة، وبلا دراية في الشؤون العسكرية والمدنية.