في ذكرى الثورة المجيدة، أود القول، إنه ليس صحيحاً البتة أن الجيش كان يحكم مصر قبل الثورة، والصحيح أن الثورة هي من مكنت الجيش من الحكم بعد سنوات طويلة من العزلة!
فمن الأخطاء الشائعة التي عملت الدعاية العسكرية على تمريرها والترويج لها؛ أن مصر واقعة تحت حكم العسكر، وهي الدعاية التي جعلت من عودتهم للحكم بعد الانقلاب، كما لو كان عودة للشيء لأصله، وأن الحكم المدني كان ضيفاً على مؤسسة الرئاسة، ليصبح من الطبيعي عزله، فالضيف يعامل بقاعدة: "يا بخت من زار وخفف"!
هي الدعاية التي جعلت من عودتهم للحكم بعد الانقلاب، كما لو كان عودة للشيء لأصله، وأن الحكم المدني كان ضيفاً على مؤسسة الرئاسة، ليصبح من الطبيعي عزله
الجيش والثورة
ولم تكن هذه الدعاية الوحيدة بعد الثورة في هذا الصدد، فقد تردد على نطاق واسع أن الجيش حمى الثورة، ومن ثم كانت الدعوة
لتمكينه بالدستور من دور في حماية الدولة المدنية أمراً طبيعياً، وكذلك الدعوة له للنزول لحماية المظاهرات في 30 حزيران/ يونيو، فهو شريك في الثورة.. ألم يجبر
مبارك على التنحي، ويرفض أمره بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين؟.. إلى غير هذا من أكاذيب رددناها حتى صدقنا أنفسنا، ومن ثم كانت الفاجعة عندما نكتشف أن المشير طنطاوي، الحاكم العسكري، قد غافلنا وانتهز سرية شهادته في محاكمة مبارك، ليصف الثورة بـ"المؤامرة الخارجية"!
كتبت كثيراً لنفي ما تردد عن أن الجيش قد حمى الثورة، باعتباري شاهد عيان وشاهد رأي في نفس الوقت، وبدأت الكتابة في ظل حكم المجلس العسكري، وكان تكرار الكتابة هو لإحساسي بأن هذه الدعاية ستقود الثورة للتهلكة على يد العسكر، وبإدخال كل زناة الليل إلى حجرتها. فقد كنت شاهداً على حضور الجيش في يوم 28 كانون الثاني/ يناير، ولم يأت لحماية الثورة أو الثوار، كما توهم الثوار أنفسهم، ولكن جاء لتقديم المؤن والذخيرة للشرطة التي هربت من الميدان، وهو ما وقف عليه الثوار أنفسهم، بعد أقل من الساعة من دخول ميدان التحرير، لكن كان هناك حرص من كل الأطراف على الاستمرار في تجاوز دواعي هذا الحضور والتعتيم عليه، وكذلك التعتيم على ما جرى في الميدان في الأيام التالية، والذي يؤكد أن الجيش لم يأت لحماية الثورة، وإنما لأنه من أدوات حسني مبارك في الحكم!
الشباب الذين ذهبوا لحضور لقاءات مع المجلس العسكري، ومع عبد الفتاح
السيسي، كانوا أصحاب مصلحة في تمرير دعاية حماية الجيش للثورة، لتبرير حضورهم هذا مع الشريك في عزل مبارك، وقد نفى طنطاوي في شهادته السرية أمام المحكمة أن يكون قد طلب من مبارك التنحي!
الشباب الذين ذهبوا لحضور لقاءات مع المجلس العسكري، ومع عبد الفتاح السيسي، كانوا أصحاب مصلحة في تمرير دعاية حماية الجيش للثورة، لتبرير حضورهم
الجيش والتوريث
ونأتي إلى الدعاية الأخرى التي دخل منها الشيطان، والتي تتمثل في أن المجلس العسكري إن كان قد دعم الثورة، فهذا بهدف وقف مشروع التوريث، فلما حدث هذا كان طبيعيا أن يعود للحكم. فمن يجرؤ من أعضاء المجلس العسكري، بمن فيهم المشير محمد طنطاوي، على أن يرفض مشروع التوريث، أو أن يكون له رأي في صيغة الحكم في البلاد؟!
بعيداً عن التفاصيل، فقد انتهت صيغة الحكم العسكري بهزيمة سنة 1967، التي اعتبرها عبد الناصر فرصة، ليحكم حكما منفرداً،
فتخلص من شركائه. وكان الحكم قد اختصر الضباط الأحرار، في مجلس قيادة الثورة، ثم ألغي الأخير ليكون هناك المجلس الرئاسي من عدد أقل من ضباط الجيش الموالين لعبد الناصر. وإذا كان ناصر حكم منفرداً في وجود "خيال المآتة" المجلس الرئاسي، فقد كان له شريك تخلص منه بالهزيمة، هو المشير عبد الحكيم عامر، الذي حوّل الجيش إلى حزب سياسي، وفكر في الانقلاب العسكري على الانقلاب، لكن عبد الناصر تمكن من احتوائه، إلى أن استغل الهزيمة في الغدر به والتخلص منه، وتخلص كذلك من نفوذ المخابرات العامة، وبتشهيره بأدائها والعمليات القذرة التي كانت تقوم بها بعلم منه!
وعندما مات عبد الناصر، كان الجيش بعيداً تماماً عن الحكم، وقد اجتمعت مؤسسة السلطة، وليس المجلس العسكري، لبحث عملية اختيار خليفته، وقد وقع اختيارهم على السادات، ولم يكن لكونه ضابطا سابقا، ولكن لأسباب أخرى، وإن عزز من وضعه أنه كان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية. وفي وقت لاحق كان من بين الذين اعتقلهم السادات نفسه هو وزير الحربية الفريق محمد فوزي، عندما حدث نزاع على السلطة، ولم يكن للجيش رأي في هذا النزاع، ولم يتدخل لحماية الوزير من البطش به!
وفي عهد السادات كانت الحكومة مدنية خالصة، ووفق القواعد المعتمدة بعد حركة الضباط الأحرار، وهي الاستعانة بالتكنوقراط بعد إلغاء السياسة. وإذ عزز انتصار أكتوبر من مكانة الجيش بعد هوانه بسب هزيمة سنة 1967، فإن اختيار حسني مبارك لا يعبر عن كونه حكماً عسكريا، وهو لم يكن الرجل الأقوى في تركيبة الجيش، فلم يكن وزيراً للحربية، أو قائداً للأركان، بل إن السلاح الذي ينتمي إليه (القوات الجوية) يخرجه عن فكرة العسكرية بمعناها التقليدي. فنظرة الخارج أن كل من في الجيش عسكريون، لكن نظرة من بداخله أن العسكريين هم فقط خريجي الكلية الحربية، ولهذا جرى التقليد على أن يكون وزير الدفاع ورئيس الأركان من الذين تخرجوا في هذه الكلية دون سواها.
وقد كان مطروحاً أن يكون النائب مدنيا، وفي مرحلة معينة كانت "المفاضلة" بينه وبين الوزير المدني "منصور حسن"، ولم يطرح الانتماء العسكري على جدول الأعمال عند الصراع أو النقاش!
وفق المنظومة القائمة، وهي أن النائب يحل محل الرئيس، ولم يؤخذ رأي المؤسسة العسكرية، في الأمر؛ لأنه خارج حدودها الوظيفية
وقد أصبح حسني مبارك رئيساً، فلم يكن هذا باعتباره عسكرياً، ولكن وفق المنظومة القائمة، وهي أن النائب يحل محل الرئيس، ولم يؤخذ رأي المؤسسة العسكرية، في الأمر؛ لأنه خارج حدودها الوظيفية، ووفق قواعد الحكم العسكري كان وزير الدفاع المشير محمد أبو غزالة هو الأحق بالخلافة، لكونه يمثل الجيش من ناحية، ولأنه تخرج في الكلية الحربية من ناحية ثانية، ولأنه من الضباط الأحرار من ناحية أخرى. ولم يكن مبارك يمتلك أي صفة من هذه الصفات، ولا يجوز التعامل معه على أنه وكيل للأصيل، فلم يكن الجيش طرفاً في اختياره نائبا للسادات، أو استمراره في هذا الموقع الذي كان معرضاً لخسارته لانحياز جيهان السادات، لغريمه "منصور حسن"!
سلطة وزير الداخلية
وعلى مدى ثلاثين عاماً، فإن أقوى رجل في الحكم بعد الرئيس لم يكن وزير الدفاع، ولكن وزير الداخلية، اللواء حبيب العادلي، الذي كان الاجماع منعقداً على أنه الوحيد القادر على القيام بانقلاب في مصر، لو امتلك الإرادة. وقد سلح الشرطة تسليحاً حديثاً، ومنافساً للجيش في كثير من الأسلحة، وكانت الحياة السياسية قبضة جهاز مباحث أمن الدولة التابع له، وكان تقرير من ضابط صغير بأمن الدولة كفيل بإنهاء خدمة ضابط كبير في الجيش، وكان مبارك يعتمد تقارير الأمن في الترقي والإبعاد، وذلك على خلاف بالتقاليد العسكرية!
ثورة يناير مكنت الجيش من الحضور في المشهد السياسي لأول مرة منذ زمن بعيد، وسط دعاية الجيش الذي حمى الثورة، وأجبر مبارك على التنحي
ولم يكن هذا فقد في عهد وزير ضعيف كالمشير محمد حسين طنطاوي، بل كان في عهد عبد الحليم أبو غزالة، وقد أبلغ وزير الداخلية زكي بدر في سنة 1988 بوجود تنظيم متطرف داخل الجيش، وأنه يقترح على الرئيس إبلاغ الشرطة العسكرية بالأمر، كان قرار مبارك له: ألقِ أنت القبض عليهم ولا تشغل بالك بشيء، وكانت المفاجأة أنه ألقى القبض على قيادات في الجيش، من غير أعضاء التنظيم؛ لأن قائد التنظيم قال إنهم منخرطون معه في تنظيمه، معتقداً أن أبو غزالة سيأتي ليهد مبنى جهاز أمن الدولة في لاظوغلي بالدبابات، لكنه لم يأت بالدبابات، فقد جاء إلى مبنى الجهاز ليسمع إلى مبرر قائد التنظيم فيضحك، حتى كاد يستلقي على قفاه، بحسب شهود عيان!
وإذ هُزمت الشرطة في يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2011، فقد كانت فرصة المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليملأ الفراغ، وتتمكن المخابرات الحربية من مهام مباحث أمن الدولة، بعد خلاف سريع مع المخابرات العامة على هذا الدور، والذي حسمه انحياز المشير للمخابرات الحربية ولشخص مديرها عبد الفتاح السيسي، ولأنه لم يكن على وفاق أيضاً مع المخابرات العامة؛ لأن بينه وبين مديرها اللواء عمر سليمان ود مفقود!
ومن هنا، فإن ثورة يناير مكنت الجيش من الحضور في المشهد السياسي لأول مرة منذ زمن بعيد، وسط دعاية الجيش الذي حمى الثورة، وأجبر مبارك على التنحي، ورفض أمراً من المخلوع بإطلاق الرصاص الحي على الثوار، إلى غير هذا من أباطيل وأسمار!
ثم جاء الانقلاب، لنعود إلى حكم العسكر، فيحكم الجيش حكماً مباشراً، ومع ذلك فالحاكم العسكري يكره الثورة، ولولاها لكان تعيينه رئيساً لحي من الأحياء هو غاية المراد من رب العباد.
إنها الثورة التي ضلت طريقها!