كتاب عربي 21

حمدي قنديل.. وداعاً

1300x600
كان قبلة الثورة وبوصلتها، وكان الموقف منه دليل على انحرافها، ومنذ اليوم الأول!

فحمدي قنديل، الذي مُنع برنامجه "رئيس التحرير" من التلفزيون المصري في عهد مبارك، ثم أجبرت قناة "دريم" على وقف البرنامج بعد انتقاله اليها، كان عدم عودة برنامجه بعد قيام الثورة؛ دليلاً على حالة التعثر التي تمر بها، وكانت ثالثة الأثافي أن "ثروت مكي" الذي أعلن متباهياً في عهد مبارك أنه من أوقف البرنامج، عاد رئيساً لقطاع الأخبار في حكم المجلس العسكري!

"مكي" كان قد وقع الاختيار عليه قائماً بأعمال رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون بعد سجن "محمد الوكيل"، ولأن وقف برنامج "رئيس التحرير" أثار ضجة كبرى، فقد تقرب مكي إلى وزير الإعلام صفوت الشريف بالنوافل، وهو المتهم الأول بوقف البرنامج، ليعلق التهمة في رقبته هو، ومع ذلك لم يعين رئيساً فعليا لقطاع الأخبار، وإنما جيء بشخص من خارج مبنى التلفزيون، هو "عبد اللطيف المناوي"، ليقوم بالمهمة، فجاء العسكر ليحييوا الموتى!

وقد كتبت رداً على اعتراف "مكي" في حينه، بأنه أقل من أن يمنع برنامجا بقيمة "رئيس التحرير" ومذيعا بقدر "حمدي قنديل"، فلا داعي لحالة التورم التي يمر بها، فلسنا بصدد قضية اتجار في المخدرات، يندفع الصبيان وفق مبدأ "شيل القضية" نيابة عن "المعلم" التاجر الكبير، وقلت يومها إن هذا القرار لا بد أن يحاط به حسني مبارك علماً، إن لم يكن هو من أصدره!

لم يكن الذين تصدروا المشهد الثوري، بدفع من العسكر، والذين شكلوا "ائتلافات الوجاهة الاجتماعية"، يعرفون "ثروت مكي"، فلم يكن هناك اعتراض عليه، لكني كتبت تعريفاً بما جرى، فلا يليق بعد ثورة على نظام مبارك، شارك فيها "حمدي قنديل"، أن يظل برنامجه ممنوعاً على التلفزيون المصري، ويتم الدفع بمن قال إنه من أوقفه ليكون رئيساً لقطاع الأخبار بعد الثورة، لكني كنت كمن ينادي في أرض غير ذي زرع، فلا حياة لمن تنادي!

كان معلوماً أن المجلس العسكري هو أحد أركان الدولة العميقة، فكل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بربطة "المعلم" حسين طنطاوي، هم من الاختيار الحر المباشر لمبارك، ومن الطبيعي ألا يرتاحوا لعودة "حمدي قنديل" الذي لم يكن ضيفاً على الثورة، فكان أحد رموز الحراك السياسي الذي انطلق في مصر منذ سنة 2004، وقد منعوا برنامجه "قلم رصاص" في قناة "دبي" بعد انتقاله اليها.

وفي ثورة يناير، كان "قنديل" من الذين تقدموا الصفوف، فكان وجوده فيها، بكل ما يمثله شخصه من موضوعية واستقلال، تأكيدا بأنها ليست عملاً تخريباً، أو مؤامرة خارجية، كما كان يروج إعلام مبارك لإدخال الغش والتدليس على الناس!

برنامج رئيس التحرير

ويعد "حمدي قنديل" من الذين ردوا الاعتبار للبرامج السياسية، بعد قناة "الجزيرة"، بل وتفوق عليها، إذ كان موعد إذاعة البرنامج هو لحظة التحول للتلفزيون المصري، لمشاهدة هذا السهل الممتنع. وأدين له بأنه فرض اسمي على التلفزيون الرسمي، والميزة هنا أن ذلك تم بدون تنازلات مني، وقد تلقيت عروضاً من قياداته تبدأ من تقديم برنامج، وتنتهي بالاستضافة في برنامج "صباح الخير يا مصر"، مروراً بالمشاركة في لجان وما إلى ذلك، ومن قدم العروض هم الثلاثي: رئيس الاتحاد، ورئيسة التلفزيون، ورئيس قطاع الأخبار، وكان الاعتذار لأكثر من سبب؛ أهم هذه الأسباب أن الطلب بدا لي مسكونا بمحاولة الشراء، وكنت أكتب عن كثير من أوجه الفساد في المبني!

لكن لم تكن تمر حلقة دون أن يعرض فقرة أو أكثر من زاويتي اليومية في جريدة "الأحرار"، وبلغ الاهتمام منه بما أكتبه؛ حد أن زملاء كانوا يعتقدون أننا صديقان، ولم أكن قد التقيته وقتها، وإن تلقيت منه اتصالات هاتفية يخبرني فيها أن "الأحرار" صارت ضمن الصحف التي يحرص على الحصول على نسخة منها يومياً ليقرأ زاويتي؛ التي تعجبه كما تعجب "نجلاء"، يقصد زوجته الفنانة نجلاء فتحي!

وعندما قمت بإتمام المصالحة بين أسرة الرئيس السادات وجريدة الحزب العربي الناصري "العربي"، بعد مانشيت "السادات هو الخائن الأعظم"، استضافني "حمدي قنديل" في برنامجه ليقف على تفاصيل الوساطة التي قمت بها، والتي بمقتضاها تنازلت أسرة السادات عن دعوى قضائية رفعها لها المحامي فريد الديب!

قال لي إنه يتصل بي بنفسه، وليس عبر أي من العاملين معه، حتى لا تكون أمامي فرصة للإفلات، وقد فوجئت بحجم الاتصالات الهاتفية التي وصلتني بعد إذاعة البرنامج، على نحو يكشف حجم المشاهدة. وقد كان برنامجاً متميزاً بكل المقاييس، وكان يمثل نشازاً عن رسالة التلفزيون المصري بشكل عام. فقد كان يتصدى للفساد، وينتقد السلطة، وكان رأس الأمر وعموده عنده هو القضية الفلسطينية، فكان ناراً موقدة ضد إسرائيل، ولعل هذا هو ما خرج به من الناصرية!

قنديل والإخوان

فحمدي قنديل كان متحمساً لعبد الناصر وثورته، وكان سنه صغيراً فاندفع في تأييدها، حد أنه قبل على نفسه أن يحاور سجناء الإخوان في السجن، وبكل حماس، وهو ما اعتذر عنه بعد ذلك. وقد قرأت اعتذاره قبل الثورة، كما حرص على تسجيله في مذكراته التي صدرت مؤخراً.

ولا يمكن النظر إلى "حمدي قنديل" إلا من خلال التعامل معه على أنه ابن الدولة، لكنه مع ذلك خرج ضد النظام القائم، وندد باستبداده وفساده، ودعا إلى إسقاطه وعدم تمكينه من توريث الحكم، ودافع عن كل المضطهدين والمغلوبين على أمرهم. وعندما قامت الثورة، لم يكن خياره "كدولجي" بين أنصاف الحلول، بل اختار التغيير الشامل، ورفض استمرار الفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، رغم ما بينهما من صداقة، فهو عنده من بقايا العهد البائد. وفي جولة الإعادة، وعندما كان عليه أن يختار بين "الاخواني" و"شفيق"، اختار الأول. وتكمن المشكلة في أنه كان من مهندسي لقاء "فيرمونت" الشهير!

فبعد جولة الإعادة، تأخر إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، وانتشرت أخبار أن العسكر سيزورون النتيجة لصالح الفريق أحمد شفيق، فهم لن يعطوا التحية العسكرية لرئيس مدني، فكان هذا اللقاء مع الدكتور محمد مرسي، في فندق "فيرمونت" إشارة بأن الثورة عقدت عزمها، وأنها لن تسمح بالتدخل وتزوير إرادة الشعب!

كانت هناك خطوط عريضة، وليست اتفاقاً على شيء محدد، وهو ما أضعف قيمة اللقاء، فكل فريق وضع تصورا في ذهنه وطلب من الآخر الالتزام به. ومهما يكن، ففريق "فيرمونت" تعامل على أنه خُدع، واتهم من قبل الأنصار بأنه أدخل عليهم الغش والتدليس، فبالغوا في المعارضة، وكان في مقدمتهم "حمدي قنديل"!

لا يستمد حمدي قنديل قيمته من "لقاء فيرمونت"، فهو، وبعيداً عن كل التكتلات والتجاذبات، كان لا بد من عودة برنامجه للتلفزيون المصري، إن لم يقع الاختيار عليه وزيراً للإعلام، فمن من الذين ترشحوا للموقع بعد الثورة، في قيمته المهنية، إذا استبعدنا أي حسابات ثورية، وإذا كان المجلس العسكري لم يفعلها، فقد كان لازماً أن يبادر بها أول حكم منتخب، جاء بإرادة الثورة!

رفض العودة

مما قيل، أن العاملين في التلفزيون رفضوا عودته، وهددوا بمنعه بالقوة، وهو عذر أقبح من ذنب، فمن هؤلاء حتى يمنعوا أحداً؟ وأين هي الدولة إزاء هذه البلطجة؟!.. كان القول إن حمدي قنديل من خارج المبنى، ولم يكن هذا صحيحاً، فقد كان ممن بنوا مبنى التلفزيون طوبة طوبة، ثم إن برنامجه يسجل خارج المبنى، فلم يذهب يوما لتسجيله في مبنى "ماسبيرو"، فهل كانت هناك رغبة فعلا في عودة البرنامج؟!

لقد ذهب "حمدي قنديل" بعيداً وشارك في تأسيس جبهة الإنقاذ، وكم حزنت أن رأيته في الجزائر يُهتف ضده ويمنع من إلقاء محاضرته، وانتابتني مشاعر متضاربة، الواضح فيها أنه الحزن على هذه النهاية لرجل كان من المفروض ألا يشارك في إسقاط أول تجربة حكم مدني في مصر!

بيد أنها أزمة جيل نظر إلى المؤسسة العسكرية على أنها "بيت الوطنية"، فهل كانت اختيارات مبارك إلا جزءاً من توجهاته العدمية؟!

رحم الله حمدي قنديل، الذي قد يشفع له أنه بعد الانقلاب قال إن كل الدم المصري حرام، وهو يعلق على مذبحة رابعة والنهضة!