لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية ،واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.
لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.
اليوم، يرصد الكاتب والإعلامي التونسي نورالدين العويديدي موقف عدد من قادة الإسلام السياسي حول تجاربهم في التحالف مع باقي الأطراف السياسية بعد الثورة.
قياديون نهضاويون: نصف نجاح للثورة خير من احتراب أهلي
ارتدادات إعلان الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي نهاية توافقه مع حركة النهضة، بعد خمسة أعوام كاملة من العمل المشترك والصداقة الحميمة بينه وبين الشيخ راشد الغنوشي رئيس النهضة، مازالت ترج الساحة السياسية التونسية وتفتحها على احتمالات عديدة أخطرها انتكاس مسار الانتقال الديمقراطي.
لكن ما يقلل من الأثر النفسي والسياسي لإعلان الرئيس قايد السبسي أن التوافق الذي حمى الثورة التونسية، حتى الآن على الأقل، من الكوارث، التي شهدتها باقي ثورات الربيع العربي، لم يعد توافقا بين أشخاص مهما كانت قيمتهم الرمزية والمعنوية.. إنه بات طريقة تفكير ومنهج في إدارة الحكم بين المختلفين، رغم كثرة أعداء هذا الخيار.
واقعا انتهى توافق النهضة والرئيس الباجي قايد السبسي ليبدأ توافق النهضة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد.. إنه الاتفاق بين المختلفين هو ما يصنع حدا أدنى من الوحدة، ويبعد شبح الصراعات التي لا تتحملها ظروف الانتقال الديمقراطي الهش.
المشكل أن الثورة التونسية التي نجحت سياسيا حتى الآن لم تحقق موعوداتها في ما يخص الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.. فبعد الثورة ارتفعت آمال التونسيين عاليا، وشعر كل تونسي بالفخر بمنجز الثورة.. ولكن بعد نحو 8 أعوام صعبة تراجعت ثقة التونسيين في أنفسهم وفي حكومتهم وفي ثورتهم، وزاد التشاؤم من المستقبل، وشهد المجتمع التونسي توترات سياسية وميدانية، وتراجعت المقدرة الشرائية للمواطنين، وبدأ البعض يحن لزمن ما قبل الثورة.. فكيف يرى قياديون بارزون في النهضة هذه التحولات المهمة؟
طرحنا هذه الأسئلة على عدد من القياديين النهضاويين من الصف الأول وعلى رئيس مركز الإسلام والديمقراطية، فتنوعت إجاباتهم عليها كالتالي.
رفيق عبد السلام: نصف نجاح خير من احتراب أهلي
الدكتور رفيق عبد السلام مسؤول العلاقات الخارجية في حركة النهضة ووزير الخارجية التونسي الأسبق يرى أن نجاح الثورة التونسية في الحفاظ على وجودها ليس ناتجا عن عبقرية فردية، بل عن عوامل موضوعية تتعلق بتركيبة المجتمع التونسي وحيادية المؤسسة العسكرية منذ بداية الاستقلال، مشيرا إلى أن لحركة النهضة "بالتأكيد دور مقدر في تميز التجربة التونسية وخصوصا رئيسها الشيخ الغنوشي".
الحد الديمقراطي الأدنى
وقال عبد السلام لـ "عربي 21": إن "إعطاء الأولوية لحماية الحد الأدنى الديمقراطي على اعتبار التموقع الحزبي والحكومي، ثم تجنب المعادلة الصفرية وتغليب روح الشراكة في الحكم على الإنفراد والهيمنة، والتعامل بعقلانية مع المنظومة القديمة، ومحاولة ترويضها داخل المنظومة الديمقراطية، وتقدير النهضة لخطواتها السياسية بعقلانية: متى تتقدم ومتى تتراجع على ضوء ما تتيحه موازين القوى الداخلية والخارجية"، كان من أهم أسباب نجاح التجربة التونسية.
ويضيف عبد السلام: "قد لا يكون خيار التوافق مثاليا وورديا ولكنه يظل أقل الخيارات سوءا، لأن البديل عن ذلك هو تعميق الصراع والاستقطاب، الذي يؤدي بالضرورة إلى تمزيق عرى الوحدة الاجتماعية والاستقرار السياسي في البلد".
وقال "على الأقل قطعنا نصف الطريق، من خلال النجاح السياسي، ويبقى التحدي اليوم كيف نستكمل النصف الآخر، أي أن نضيف لهذا النجاح السياسي المكتسب الاقتصادي والتنموي". وأضاف "الأمور تتحسن تدريجيا بعامل الوقت كما تشير إلى ذلك الأرقام، ولكنها تظل دون المأمول".
وعلل عبد السلام ذلك بالقول: "لا ننسى هنا أننا نتحرك في محيط إقليمي بالغ الاضطراب والتقلب، وخصوصا مع وجود الأزمة لدى الجار الليبي، الذي تربطنا به علاقات خاصة، وما يجرى فيه يؤثر على أوضاعنا الاقتصادية والأمنية بصورة مباشرة".
وعن أسباب تشاؤم التونسيين بعد الثورة يقول عبد السلام: "صحيح أن التونسيين متشائمون وضائقون ذرعا بوضعهم بصورة عامة، وهذا الأمر مفهوم".
ويضيف: "التونسيون ساخطون ومتذمرون من الوضع ولكنهم لا يقبلون التفريط في المكتسبات التي انتزعوها منذ الثورة، وفِي مقدمة ذلك مكتسب الحرية الفردية والسياسية على نحو ما تبين جل استطلاعات الرأي. وهذا يعني أنهم يتطلعون للمستقبل وما هو أفضل مما كانوا عليه، ولا يريدون العودة إلى حقبة ابن علي الكريهة".
ويختم عبد السلام حديثه بالقول "في النهاية نصف نجاح قابل للتطوير والاستكمال أفضل بكثير من خيار الفشل الكامل.، على حد تعبيره.
الجلاصي: مكابدة الإكراهات
المهندس عبد الحميد الجلاصي النائب السابق لرئيس حركة النهضة والقيادي البارز في الحركة لا يبعد كثيرا عن رأي رفيق عبد السلام.. هو الآخر يرى أن "المسار التونسي يتقدم رغم الصعوبات والتعثرات"، ويرجع "الفضل في ذلك إلى العقلية التوافقية التي حكمت البلاد في أشواطها الأربعة ما بعد الثورة: ما قبل انتخابات 2011، ثم فترة حكم الترويكا، ثم حكومة التكنوقراط، وأخيرا حكومات ما بعد انتخابات 2014".
وقال الجلاصي، في حديث خاص لـ "عربي 21"، "النجاح كان متفاوتا حسب المسارات، والإنجاز الأبرز كان في السياسي، والثغرة الأبرز كانت في الجانب الاجتماعي التنموي ونمط الحوكمة، ولكن كل هذا يمكن أن يُتدارك بوجود الدولة وبالتسليم لقاعدة التنافس الديموقراطي" .
وحين سئل المهندس الجلاصي هل صحيح أن التوافق في تونس تم على حساب الإسلاميين، بمشاركتهم في السلطة دون وزنهم الحقيقي، ثم برفضهم تشكيل الحكومة رغم أنهم صاروا الكتلة الأولى في البرلمان؟ أجاب قائلا: "يجب أن ندرك ماذا كان يريد الإسلاميون من الثورة وماذا كانت تريد الثورة من الإسلاميين".
وأضاف: "الجمهور يطالب ممن ينتخبهم تحقيق مطالبه الأكثر مشروعية والأكثر إلحاحية أي المتعلقة بنمط العيش. ولكن لهذا مقدمات، وأهمها إرساء الإطار العام القادر على هذا الإنجاز، أي الدولة الديمقراطية والتعايش والاختلاف والتداول.. هذه كانت أولوية الإسلاميين ومسؤوليتهم، وهم يعلمون ما يحيط بصورتهم من مخاوف وريبة وشكوك".
وقال: "ضمن هذه الرؤية الاستراتيجية كان التوافق ضرورة ومسؤولية، وكان أكبر كسب للإسلاميين أن ساهموا بفاعلية في تثبيت مسيرة البلاد بالاتجاه الديموقراطي.. بهذا تتوفر الشروط الدنيا للإنجاز وللتموقع أي المطلوب من السلطة في أوضاع الاستقرار الديموقراطي".
وعن حقيقة كون الإسلاميين يراعون القوى الخارجية أكثر مما يراعون مطالب شعبهم وقواعدهم، قال الجلاصي "السياسة هي فعل داخل إطار الزمان والمكان، وهي مكابدة لحلحلة جدران الإكراهات والتحايل على الضغوط.. السياسة في العالم تقوم على الاعتماد المتبادل. وإذا كان هذا شأن الدول الكبرى ديموغرافيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا فأحرى أن يكون شأن بلدان مثل تونس" . وأضاف "غير أن مراعاتنا لمراكز التأثير في محيطنا، بل وحتى داخل بلادنا لا يمكن أن يكون على حساب مصالح شعبنا، بل هو بالتحديد من أجل خدمة تلك المصالح"، على حد قوله.
شرط لنهضة الاقتصاد
رضوان المصمودي رئيس مركز الإسلام والديمقراطية ليس قياديا في حركة النهضة، ولكنه مقرب من الحركة. وهو يرى أن "سر نجاح تجربة التوافق التونسية أن الشعب التونسي معروف منذ القدم بتمسّكه بقيم الاعتدال والتسامح وهو شعب متجانس إلى أبعد الحدود، كما أنّ مستوى التعليم عالي نسبيّا بالمقارنة بالعديد من الدول العربيّة الأخرى، وهذا جعل الجميع مقتنع بضرورة إرساء ديمقراطيْة حقيقيّة تضمن حقوق الجميع ولا تستثني أيّ طرف سياسي".
وقال المصمودي لـ"عربي 21": لقد "جرّبنا في تونس لمدّة ستّين عامًا ـ منذ الاستقلال ـ وخاصّة خلال فترة حكم ابن علي إقصاء الإسلاميين وقمعهم ومحاولة القضاء عليهم، ولكن هذا لم يزدهم إلاّ قوّة ورسوخ قدم وشعبيّة، حتّى أصبحوا مباشرة بعد الثورة أكبر وأقوى قوّة سياسيّة في البلاد. إذاً لا مجال لإقصاء أيّ طرف كما أنّه لا مجال لأيّ طرف أو حزب سياسي أن ينفرد بالسلطة ويقصي الآخرين لأنّ الدستور والقوانين الانتخابيّة بعد الثورة لا يعطي الأغلبيّة المطلقة لأيّ طرف، وبالتالي التوافق والتحالف بين الأحزاب الرئيسيّة أمر محتوم وضروري لتوفير الاستقرار".
دعامة المجتمع المدني
وأضاف عاملا آخر من عوامل النجاح في ترسيخ خيار التوافق، "أنّ منظّمات المجتمع المدني والتي أصبحت تعدْ بالآلاف بعد الثورة وأصبحت ناشطة جدًّا، لعبت دورًا رئيسيّاً في ترسيخ ثقافة الحوار والتعايش السلمي وبناء التوافقات لأنّ السياسة هي فنّ الممكن وفنّ كسب الحلفاء والأصدقاء ولأنّ الغالبيّة العظمى للشعب التونسي تريد نجاح الانتقال الديمقراطي في تونس وضمان عدم عودة منظومة الفساد والاستبداد التي أرهقت كاهل كلّ المواطنين".
وقال "حلم الديمقراطيّة، خاصّة بعد الثورة، لا يتحقّق إلاّ بالتوافق وبتوحيد كلّ الجهود من أجل مصلحة تونس".
توافق الحد الأدنى
لكن المصمودي يقر بأن "التوافق السياسي الموجود الآن في تونس هو فعلا توافق الحدّ الأدنى". ويرى أن "هذا الحدّ الأدنى مهمّ وضروري لضمان الحدّ الأدنى من الأمن والاستقرار".
ويضيف: "تحقيق الحدّ الأقصى والأصعب في الشأن الاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى أمور ثلاثة مازالت منعدمة أو غير متوفّرة بالحدّ الكافي: نحتاج أولا إلى أحزاب قويّة وفاعلة ومؤثّرة وعددها لا يتجاوز الثلاثة أو الأربعة أحزاب وقادرة على إدارة الحوار بينها، ويجب ثانيا أن يكون لدى هذه الأحزاب رؤى وبرامج وخطط وخبراء في الشأن الاقتصادي والاجتماعي قادرين على إقناع الشعب وقواه الحيّة بهذه الرؤى وهذه البرامج، ونحتاج ثالثا إلى حوار وطني واسع وشامل في الشأن الاقتصادي والاجتماعي يدوم على الأقلّ سنتين (أو أكثر) ويشارك فيه كلّ فئات الشعب التونسي في كلّ أنحاء الجمهوريّة حتّى يتفهّم المواطن جيّدًا طبيعة الإصلاحات والتغييرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ويقتنع بأسبابها ودواعيها ونتائجها المرتقبة، عندئذٍ فقط يستطيع الشعب أن يدافع عن هذه الإصلاحات".
خطر الانتكاسة
وفي ظل ضعف الأداء الاقتصادي لا ينكر المصمودي إمكانية انتكاس التجربة. ويقول "هذه الخشية وهذا الخطر موجود خاصّة مع الجهود الكبيرة والأموال الضخمة التي ينفقها أعداء الثورة وأعداء الديمقراطيّة من داخل تونس ومن خارجها لإحباط عزيمة الشعب التونسي وإقناعه أنّ الديمقراطيّة لا تصلح في العالم العربي لأنّ أوضاعه الاقتصاديّة "كانت أفضل" ولأنّ العرب يحتاجون إلى "مستبدّ عادل".
لكن عند المصمودي كما يقول "ثقة كبيرة أنّ الشعب التونسي شعب واعي ومثقفّ ومطّلع على تجارب الدول الأخرى في الانتقال الديمقراطي وكذلك في التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وبالتالي هو يعلم جيّدًا أنّ التغيير الحقيقي وبناء نظام ديمقراطي واقتصادي جديد يحقّق العدل والمساواة والتنمية عمل جبّار ويحتاج إلى وقت وإلى تظافر الجهود، وتجارب الدول الأخرى من تركيا إلى إسبانيا إلى كوريا الجنوبيّة إلى أوروبا الشرقيّة أبرزت أنّ هذا الانتقال يتطلّب على الأقل عشرين عامًا وأحيانًا أكثر من ذلك".
ويختم المصمودي: "نعم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس صعب ولكن لن يتحسّن ولن يتغيّر نحو الأفضل إلاّ عندما تتوفّر وحدة وطنيّة حقيقيّة ورؤية سياسيّة واقتصاديّة واضحة يلتقي حولها أغلب فئات الشعب التونسي وخاصة الشباب الذي يبحث عن مستقبل أفضل وتحقيق حلم ثورة الحرّية والكرامة"، على حد قوله.
(*) كاتب وإعلامي تونسي
تونس.. "النهضة" قدمت نموذجا في القبول بالآليات الديمقراطية
إسلاميو تونس.. تراكم تجارب أم براغماتية دون أسس فكرية؟
تونس.. الإسلاميون ينخرطون في التحالفات بديلا عن الإقصاء