كان أحد شعارات الندوة الدولية للاستثمار التي عقدت في
تونس يومي 29 و30 نوفمبر "
الاستثمار في الديمقراطية". غير أن العقل السياسي المنظم للندوة ليس له أي علاقة جدية بالعقلية الديمقراطية.
وما نراه أن الرئيس السبسي ومن معه يرون الاستثمار ممكنا فقط في ظل الاستبداد وعلى هذا الأساس لا يرون المستقبل إلا في إطار الماضي، وهو ما جسده الشعار المتداول بين أعضاء الحكومة "تونس تعود".
فقد نشر وزراء في الحكومة على "فيسبوك" تدوينات لدعم الندوة الدولية للاستثمار مع هاشتاغ بالإنجليزية "Tunisia is back"، وهو ما تم تأكيده في خطاب السبسي من خلال عبارات "تعود تونس" و"
عودة تونس" لترسيخ نظرة رجعية، وليس مستقبلية جديدة.
الحقيقة هذه دعاية مضادة لتونس، إذا كان المقصود "عودة تونس" ما قبل 2011، فذلك يعني عودة مناخ استثمار لمصلحة العائلة واللوبيات والفساد الممنهج من أعلى هرم الدولة، حيث كان يتم ابتزاز وإقصاء المستثمرين على أساس مصلحة العائلة الحاكمة الذي تشير إليه الأوساط المالية الدولية من منتدى دافوس إلى البنك الدولي بوصفه مناخا سيئا وطاردا للاستثمار.
هذا الحنين لمناخ الاستثمار زمن بن علي، يعكس تذمرا ضمنيا من الفرص الجديدة التي سمحت بها الثورة، إذ أصبح من الممكن إرساء مجال أعمال واستثمار شفاف وحر حقيقة. هو حنين لمناخ اللوبيات ومنهجية "وكلني نوكلك".
وهو ما يتم في الكواليس فعلا، عبر التداخل المتزايد بين مصالح رجال أعمال يتبعون أحزاب الحكم والسلطة التنفيذية والتشريعية.
وتضارب المصالح الصارخ وانتعاش
الفساد بين هذا وذاك. وفي هذه الحالة، ومثلما حدث في مصر مهما كانت الوعود الاستثمارية ضخمة (وهي في معظمها وعود غير ملزمة)، فلن تصبح ذات جدوى في هكذا مناخ.
الهاشتاغ الذي نحتاجه ليس "Tunisia is Back"، بل يجب أن يكون للذكر لا الحصر "New Tunisia" أو "A Forward look for Tunisia".
لكن المسألة تتجاوز الشعارات إلى ممارسات لا تخطئها العين، للذكر لا الحصر:
- لم توجه دعوات لأحزاب المعارضة للندوة وتم توجيه دعوات اسمية فقط لنواب موالين للحكومة، في حين كان من المهم فسح المجال لحضور أحزاب معارضة للحكومة تعبيرا عن إيمان فعلي بالديمقراطية.
- قاطع السبسي ورئيس حكومته والبرلمان جلسات الاستماع لهيئة الحقيقة والكرامة التي سبقت الندوة الدولية بأسبوع، وقاد الموالون له حملة شعواء على أساس أنها ستضر بالندوة، في حين تناقلت أهم وسائل الإعلام الدولية الجلسات بإيجابية (بسبب الروح التقدمية والإيجابية لمبدأ العدالة الانتقالية) ساهمت في تحسين صورة تونس في الخارج.
- قادت الحكومة حملة تشويه للاتحاد العام التونسي للشغل وهيئات نقابية (مثل المحامين) على أساس أن أي تحركات زمن مؤتمر الاستثمار ستشوه فرص الاستثمار، في حين أن قدرة تونس على ضمان فضاء لتحركات سلمية مدنية هو دليل قوة وليس دليل ضعف.
- قمعت الحكومة بقوة مسيرة لشباب مانيش مسامح والمفروزين أمنيا، في حين أن السماح للمسيرة بالتحرك والتعامل معها بحكمة كان سيكون مؤشرا آخر على قوة الحكومة وقدرتها على استيعاب مختلف الاحتجاجات السلمية، في حين قمعها دليل ضعف.
- كشف القاضي خالد العياري رئيس الهيئة الوقتية للقضاء العدلي، في حوار غير مسبوق، على أحد الإذاعات هذا الأسبوع عن أشياء خطيرة جدا. حسبما صرح به فإن "جهة سياسية كبرى في البلاد"، واضح من سياق كلامه أن السبسي، تدخل لعدم التمديد له، بالتالي عمليا توفير الظروف لتعطيل إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وإخضاع أي تسميات للمجلس لهوى السلطة التنفيذية.
نكسة أساسية لاستقلال
القضاء، بما يكشف بوضوح أننا إزاء حرب مفتوحة من السبسي وحزبه، وتحالفه ولوبياته ضد القضاء.
يحدث هذا في خضم الندوة الدولية للاستثمار، التي من المفروض أن نرسل خلالها رسائل إيجابية حول دولة القانون واستقلال القضاء لحماية مناخ الاستثمار.
- بالإضافة إلى سلبية الحكومة في مكافحة الفساد بشهادة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وإصرار الرئيس وحزبه على تمرير قانون "المصالحة الاقتصادية" الذي شهدت مؤسسات دولية على تشجيعه على التطبيع مع الفساد، بالإضافة إلى قوانين مشبوهة سيتم عرضها على البرلمانية تساعد على الاستثمار ظاهريا لكنها تشجع، في ظل الظروف الراهنة، على إطلاق العنان للفساد، خاصة منها قانون "الطوارئ الاقتصادية".
يبقى أن من أهم ميزات الندوة الدولية للاستثمار أن عرت الكيل بمكيالين لعدد من القوى الأقليمية والمحلية. فالدول ذاتها التي دعمت مسار الانتقال الديمقراطي في تونس في بداياته هي ذاتها التي قدمت دعما ماديا فعليا لتونس في مؤتمر الاستثمار (باستثناء الولايات المتحدة التي تمر بفترة انتقالية استثنائية).
الباقي ومنهم الإمارات ومصر وروسيا قاطعوا المؤتمر (أرسلوا وفودا هزيلة) ويشاهدون من بعيد متمنين سقوط النموذج الديمقراطي التونسي، على الرغم من كل نقائصه وسلبياته.. وهي الدول ذاتها التي أعلنت بوضوح عدائها لأي تجربة ديمقراطية وحماية نموذج الاستبداد العربي المتخلف. وللمفارقة هي الدول ذاتها التي تغزل بها حزب السبسي وحلفه النمطي ذات يوم.
أخيرا، من المهم الآن التدقيق في قيمة الوعود والالتزامات الفعلية التي تم التعبير عنها. وقد أكد راضي المدب أحد أعضاء اللجنة المنظمة للمؤتمر أن الأموال التي تم التوقيع عليها رسميا وباتت ملزمة بلغت مليار دينار أما باقي الوعود فهي ليست ملزمة قانونيا، ويمكن التراجع فيها إن لم يتم السعي نحو تحقيقها عبر تقديم مشاريع ودراسات حقيقة للمشاريع من الجانب التونسي.
هنا، من الضروري التذكير بمؤتمر الاستثمار الدولي المصري في شرم الشيخ في آذار/ مارس 2015، إذ أنجر عنه "أرقام كبرى"، لكن في النهاية كان على النظام المصري أن يلجأ إلى صندوق النقد الدولي بعد الوعود الضخمة.
ومنها: مذكرات تفاهم وقعت مع شركات ومستثمرين بشأن مشروعات سيتم الاتفاق عليها لاحقا، وتقترب قيمة تلك المشروعات من 100 مليار دولار.
واتفاقات مع شركات ومستثمرين على مشروعات محددة، بلغت قيمتها ما بين 36 و38 مليار دولار، جزء كبير منها في قطاع الطاقة والبقية في قطاعات أخرى.
ومنح ومساعدات دولية تصل إلى 5 مليارات دولار، وخليجية بقيمة 12.5 مليارا، تتفاوت ما بين ودائع في البنك المركزي لدعم وضع العملة المحلية، وتمويل صادرات وضمانات ائتمانية.
ولهذا، فإن الضغط البرلماني على الأقل لمتابعة الأرقام المتمخضة عن مؤتمر تونس أساسي. ومنها مبادرة من الكتلة الديمقراطية (تضم أحزاب حراك تونس الإرادة -التيار الديمقراطي- حركة الشعب) وبتفاعل عدد من النواب من مختلف الكتل قدمت عريضة إلى رئيس مجلس نواب الشعب بغاية تكوين لجنة برلمانية خاصة تتكفل بمتابعة ومراقبة التعهدات والقروض والهبات التي تحصلت عليها الحكومة التونسية من عدد من الدول الشقيقة والصديقة وصناديق التمويل الدولية بمناسبة انعقاد الندوة الدولية للاستثمار تونس 2020.