يتذكر الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، اليوم الذي أصدرت فيه الطغمة العسكرية التركية حكم
الإعدام على رئيس الوزراء التركي عدنان
مندريس، وكيف شعر والده الذي كان يعمل بحارا، بالحزن، وقال أردوغان لاحقا إن إعدام مندريس جعله يتحول نحو السياسة.
واستعاد مراسل صحيفة "واشنطن بوست" إيشان ثارور، في تقرير له، ذكرى مندريس ومحاولة حكومة أردوغان إحياء ذكراه. وبدأ حديثه قائلا: "في ظل سور يعود إلى العصور الوسطى في شمال المدينة القديمة، هناك ثلاثة قبور لرجال علقوا على حبل المشنقة، والقبر الذي في الوسط يعود إلى رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس، الذي أطاح به
انقلاب عسكري عام 1960، وأعدم بعد عام إلى جانب وزيري الخارجية والمالية، اللذين يرقدان إلى جانبه".
ويعلق ثارور بأن "تاريخ
تركيا الحديث يتخلله العديد من الأحداث الدرامية والاضطرابات، فإن البلد عانى من مشكلات وقلاقل وعقود من التمرد، الذي شنه المتمردون الانفصاليون الأكراد، وتهديد الإرهاب الإسلامي، ومحاولات انقلابية عدة، بما فيها المحاولة الفاشلة في 15 تموز/ يوليو، التي دفعت الحكومة إلى حملة تطهير غير مسبوقة للمؤسسات".
ويشير الكاتب في تقريره، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن "إطاحة الجيش بمندريس والسجن الظالم له، وهو أول رئيس وزراء انتخب في انتخابات حرة، يعد في عقول بعض الأتراك الإثم الأصلي، والمأساة التي سبقت عددا من الاضطرابات اللاحقة".
ويذكر ثارور أن "مأساة مندريس لم تغب عن ذهن أردوغان، الذي يقود تركيا منذ عقد ونصف، فاستحضر ذكرى رئيس الوزراء السابق، وعدّ ذكراه جزءا من إرثه السياسي، حيث راقب أردوغان الشاب والده البحار من منطقة البحر الأسود، عندما صدر حكم بإعدام مندريس، وقال إن الحزن الذي فرضته اللحظة جعله يتحول للسياسة".
ويبين الكاتب أنه "في جزيرة منبسطة، ليست بعيدة عن شاطئ إسطنبول، التي كانت مرة منفى للأميرات الروميات النواشز، حبست الطغمة العسكرية مندريس وعذبته، وحاكمته مع عدد من كبار حكومته، وتمت إعادة تسمية الجزيرة، بتوجيه من أردوغان، إلى "جزيرة الحرية والديمقراطية"، ويتم إنشاء فندق ومجمع سياحي فيها، وقال أردوغان أثناء الحملة الانتخابية عام 2014: (نقوم بتحقيق حلم مندريس)، وأضاف: (ربما أعدموه، لكنه لم يُنس، فهو في قلوبنا)".
ويعلق ثارور، قائلا إنه "في أعقاب الانقلاب الفاشل، بدا مصير مندريس حاضرا وله علاقة بالموضوع، فالصمت العام على انقلاب عام 1960، والمحاكمات الهزلية، التي عقدت فيما بعد، تعدان كما يقول أستاذ التاريخ في جامعة صبنجني في إسطنبول خليل بكرطاي (وصمة عار مظلمة) في ضمير الأتراك، وهناك مقارنة بين ما حدث سابقا من صمت وأحداث مع ما حدث هذا الشهر، عندما قام الجنود المتآمرون بإغلاق الجسور، والهجوم على مؤسسات الدولة في إسطنبول وأنقرة، حيث خرجت أعداد كبيرة من المواطنين إلى الشوارع من أجل دعم الحكومة المنتخبة، ودعمت المعارضة، رغم خلافاتها مع أردوغان، الحكومة المنتخبة، ولا تزال التظاهرات في ساحة تقسيم تعقد يوميا للدفاع عن الحكومة".
وتنقل الصحيفة عن المتحدث باسم أردوغان إبراهيم كالين، قوله: "عادة ما يختلف المواطنون في أي ديمقراطية"، وكتب كالين في عمود صحافي: "لكن رد أمتنا على هجوم 15 تموز/ يوليو أثبت أن الديمقراطية والحرية وحكم القانون أمور لا يمكن التفاوض عليها"، مشيرة إلى أن المحاولة الانقلابية كانت الأكثر دموية في تاريخ التدخلات العسكرية الطويلة في السياسة التركية، حيث فتح الجنود النار على المدنيين، وقصفوا البرلمان، وأدت هزيمتهم إلى إثارة المشاعر الوطنية، ومشاعر القاعدة المحافظة الداعمة لأردوغان، التي لا تشبه القاعدة التي دعمت مندريس.
ويورد التقرير نقلا عن المعلق الليبرالي مصطفى أيكول، قوله إن "أحفاد الذين بكوا من أجل مندريس خرجوا إلى الشوارع، واستخدموا مواقع التواصل الاجتماعي، ونظموا أنفسهم ضد الانقلاب"، لافتا إلى أن مندريس كان مثل أردوغان، سياسيا يمثل يمين الوسط، وحظي بدعم شعبي ضخم، وفي ظل علمانية قاسية دفع مندريس باتجاه إصلاحات اقتصادية ليبرالية، وحاول فتح المجال أمام الممارسة الإسلامية، حيث سمح بالأذان، وباللغة العربية ولأول مرة، فالجمهورية التركية الحديثة أنشئت على يد النخبة المتغربة المنفتحة، التي تنتمي إلى المدن الساحلية، وكانت معزولة بقدر كبير عن الطبقات المحافظة في عمق الأناضول.
ويستدرك الكاتب بأنه رغم تعليم مندريس العالي، وانتمائه لطبقة ملاك الأراضي، إلا أنه وصل إلى السلطة بمعونة القاعدة المتدينة والفقيرة، ويعلق بكرطاي، قائلا إن انتخابه عام 1950 "كان أول اختراق، وأول محاولة للهامش ليقوم بغزو مركز السياسة التركية".
وتنقل الصحيفة عن إيتين ماهكوبيان، الصحافي والمستشار السابق لحكومة أردوغان، قوله إن الأخير ينظر لنفسه على أنه يسير على خطى مندريس، ويستخدم هذا التاريخ لإظهار أن خطابه الإسلامي "له جذور، وأنه جزء من تقاليد سياسية قديمة"، لافتة إلى أن أردوغان يزعم أنه يواجه القوى ذاتها التي واجهت مندريس، وهي المؤسسة العسكرية، و"الدولة العميقة"، التي تشير إلى القوى المعادية للديمقراطية، التي زرعت في بيروقراطية الدولة.
ويفيد التقرير بأن الحكومة التركية اتهمت حركة فتح الله غولن بالتخطيط للانقلاب الأخير، مشيرا إلى أن رجل الدين غولن يعيش في منفى اختياري في الولايات المتحدة، لكنه يقود حركة عالمية مكونة من شبكة مدارس وجمعيات خيرية وأعمال تجارية، وقد تعاون أردوغان في السنوات الأولى لحكم حزبه، العدالة والتنمية، مع الغولنيين، إلا أن العلاقة بدأت بالتدهور في السنوات الأخيرة، وتحولت إلى حرب مفتوحة.
وينوه ثارور إلى أن أردوغان وصف محاولات أتباع غولن توريطه ومسؤولين في حكومته بأنها محاولة انقلاب، ووصف المحاكمات التي نظمت لعدد من المسؤولين بأنها اعتباطية، ويرى أيكول أن "رؤية أردوغان تقوم على رواية مفادها أن مندريس أطاحت به قوة متآمرة وشنيعة تعمل ضد الأمة، وانقلابيون يريدون تحدي غالبية الشعب"، وأضاف أن "الغولنيين هم عنصر في تقاليد التآمر الانقلابي القديم"، حيث تبدو المقارنة مشروعة في ضوء المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي تقول الحكومة إن مؤيدي غولن قادوها، كما يرى أيكول.
وتختم "واشنطن بوست" تقريرها بالإشارة إلى أنه تم منذ المحاولة الانقلابية سجن وطرد وتوقيف مئات السياسيين والمسؤولين والعسكريين عن أعمالهم، وصدرت أوامر بإلقاء القبض على عدد من الصحافيين المتعاطفين مع غولن، وتم إغلاق حوالي 100 مؤسسة صحافية؛ بسبب روابط مع غولن، بحسب ما قالت الحكومة.