ونحن هنا أعني بهم العرب الذين كثيرا ما نقرأ في مواقع التواصل الاجتماعي هجوما منهم ضد
إيران، ولأننا نعاني من سيولة في الألفاظ يتم استحضار جميع الأوصاف ذات الدلالة التاريخية مثل العدوان الفارسي المجوسي الصفوي، ورغم هشاشة هذه التعبيرات إلا أنها تلقى رواجا..
فإيران الحالية ليست مجوسية قطعا فقد دخلها الإسلام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأسلم أهلها وحسن إسلامهم وكان منهم العلماء الأفذاذ في اللغة والفقه والحديث والطبيعة، والمكون الفارسي مكون أساسي من مكونات الإسلام الحضارية.. واتهام إيران وسكانها بعد هذه القرون الطويلة بالمجوسية هو اتهام مجحف.
كما أن إطلاق الاتهام ضد القومية الفارسية باعتبارهم يمثلون إيران هو أيضا مجحف فإيران وإن كانت تتبنى اللغة الفارسية كلغة رسمية إلا أنها تتكون من ست قوميات، والناطقون بالفارسية ليسوا جميعهم في إيران وليسوا جميعهم شيعة، فالقومية الفارسية ممتدة في عدة دول في آسيا الوسطى.. فالطاجيك الذين ينتمون للقومية الفارسية يمثلون تقريبا ثلث الشعب الأفغاني وهم سنة أحناف كذلك الأمر في جمهورية طاجيكستان ذات الأغلبية الفارسية والتي تعتبر اللغة الفارسية لغتها الرسمية كما أن الفرس متواجدون أيضا في أوزبكستان وهم أيضا سنة أحناف.. وبالتالي نستطيع أن نقول إن نصف الفرس تقريبا هم من أهل السنة وليسوا إيرانيين وهم ينزعجون عندما يقرؤون هجوما على القومية الفارسية بسبب سياسة إيران التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل بل وربما يحملون منها موقفا عدائيا كما هو الحال في أفغانستان مثلا.
والمفارقة أن الفرس في إيران تاريخيا كانوا من أهل السنة والجماعة حتى جاء الصفويون الآذريون الناطقون بالتركية وعملوا على نشر التشيع في إيران بكل الطرق واستعانوا في سبيل ذلك بعلماء شيعة عرب من جبل عامل بلبنان وفدوا إلى إيران لتشييع سكانها فكريا وعلميا حيث كان الصفويون يعانون قصورا في هذا المجال.
لم تكن العلاقات العربية الإيرانية على ما يرام في زمن الشاه الذي كان حليفا لأمريكا وإسرائيل واستبشرت الشعوب العربية خيرا بالثورة الإسلامية في إيران والتي يعتبرها المؤرخون أنجح ثورة قامت في التاريخ نظرا لسرعة إنجازها واستلامها الحكم وتمكنها من القضاء على دولة الشاه العميقة الممتدة لمئات السنين، وكان أول الزائرين المهنئين بانتصار الثورة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تلاه وفد من الإخوان المسلمين، وكان للشعارات الوحدوية التي أطلقها الإمام الخميني تأثير إيجابي في الأوساط السنية عموما.
فما الذي حدث بعد ذلك؟
تفاعلت العلاقات العربية الإيرانية أخذا وردا منذ قيام الثورة مرورا بفترة الحرب العراقية الإيرانية التي نظر لها المعتدلون بأنها تمثل استنزافا لمقدرات الأمة يستفيد منه أعداؤها، تماما كما مثل الصراع الصفوي العثماني استنزافا لطاقات الأمة وإشغالا لها عن القيام بدورها، ودقت أجراس الطائفية بقوة وظهرت أدبيات تاريخية تنفخ في نار الطائفية وتزيدها اشتعالا.
ولكن الموقف العام عند الشعوب العربية لم يضع العامل الطائفي في المقدمة ولم ينظر لإيران نظرة طائفية خصوصا عندما يراها ترفع شعارات المقاومة والعداء لإسرائيل وتقدم المال والسلاح للمقاومة في لبنان وفلسطين وتشكل محور المقاومة الذي ضم إيران وسوريا وحزب الله وحماس، وحتى وقت قريب جاءت إيران في استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة في المرتبة الأولى بين الدول التي أعطت قطاع غزة القدرة على الصمود في وجه إسرائيل والاستمرار في إطلاق الصواريخ خلال الحرب الأخيرة عام 2014.
ورغم ذلك يجب أن تكلم بصراحة بأنه ومنذ لحظة احتلال القوات الأمريكية للعراق والموقف الإيراني الذي اتسم بالبراغماتية الشديدة والأنانية في استغلال هذه اللحظة التاريخية فيما يخدم مصالح إيران وإن كان على حساب الشعب العراقي وتركيبته الديمغرافية، فإن الرصيد الإيراني لدى الشعوب العربية في نزول ولسنا بحاجة للتدليل على ذلك فالعقلاء من سياسيي إيران يدركون انحسار شعبيتها حتى وصل إلى الحضيض بعد الثورة السورية وأحداث اليمن.
وفي مثل هذه الأجواء المشتعلة التي تدق طبول الحرب في المنطقة يصبح كلام العقلاء صعبا، فما أسهل أن نتوجه بالشتم إلى السياسة الإيرانية أو العربية أو نتهم هذا الطرف أو ذاك لكننا فعلا بحاجة إلى الهدوء والكلام المتزن مع جميع الأطراف ولن نعدم أن نجد عقلاء يستمعون لصوت العقل والحكمة قبل أن تحرق نار الفتنة الجميع.
فإيران حقيقة جغرافية قائمة لا يمكن إزالتها ولا مفر من التعايش معها، وإن العدو الحقيقي الذي يجب أن توجه ضده جميع السهام هو العدو الصهيوني، ولا شك بأنه سعيد بهذه الفتن والحروب التي تنهك المنطقة وتنقص من مقومات صمودها، وليس من مصلحة العرب استعداء إيران كما ليس من مصلحة إيران استعداء العرب.
وإيران الثورة هي بنت فكر المفكر الكبير علي شريعتي رحمه الله الذي انتقد التشيع الصفوي الطائفي القائم على الطقوس واللطم ودعا للتشيع العلوي القائم على مبادئ رفض الظلم ونصرة المظلومين، فهل التشيع الذي تنشره إيران الآن هو تشيع القيم الحسينية بمفهومها الذي ذكره شريعتي أم التشيع الطائفي الصفوي المتعصب؟ من الذي يمثل الحسين عليه السلام ومن يمثل يزيد في سوريا والعراق؟
لقد كان منتظرا من إيران الثورة أن تدعم تحركات الشعوب العربية نحو الحرية والعدالة والكرامة، وأن تشكل رصيدا مضافا للحركات الإسلامية التي صعدت للحكم بعد ثورات الربيع العربي (والتقصير هنا مشترك من الجانبين) لكن ما تزال الفرصة سانحة وإن تأخر الوقت لإعادة بناء ما تدمر وإيجاد حل سياسي معقول.
يجب على الجميع أن يدرك أن اللعب بالطائفية خطر جدا ونارها حارقة للجميع ولن يسلم منها أحد، وإيران ذات القوميات والمذاهب المتعددة ليست بمعزل عن فوضى الطائفية خصوصا وأن السياسة الأمريكية في المنطقة – رغم تخبطها – إلا أن خطها العام هو تقسيم المنطقة وتفتيتها وإعادة تشكيلها فيما يخدم إسرائيل. وقد ذكر السيد رفسنجاني منتقدا السياسة الإيرانية الحالية في المنطقة بأنها السبب وراء ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، فلكل فعل رد فعل، والطائفية بالتأكيد ستواجه بطائفية مضادة.
إن أكبر مقتل يصيب أي قوة سياسية هو شعورها بغطرسة القوة والغرور وعدم الحاجة للتنازل من أجل التعايش مع الجميع، لذلك والخطاب هنا موجه لإيران بعد توقيعها الاتفاق النووي وتكريسها كقوة إقليمية أولى في المنطقة أنها يجب أن تخفض جناحها لجيرانها العرب وتسعى للتواصل مع القوى الشعبية العربية فيما يخدم السلم الاجتماعي في المنطقة وفق معادلة أن الجميع يفوز. وإلا سيخسر الجميع لأن موازين القوى ليست ثابتة.
وإيران مدعوة لإعادة النظر في خطابها وسياساتها فتبني شعار المقاومة والإصرار على أنها راعية محور المقاومة لم يعد يجد له سوقا بين العرب ولم يعد الشعار ولا الخطاب واقعيا كما كان من قبل، والمنطقة بحاجة إلى من يرفع شعار العدل والحرية والكرامة والوحدة ومحاربة الاستقطاب ويطبق ذلك تماما كما رفعت إيران شعار المقاومة وطبقته عمليا، وإلا فالسؤال الذي سيبقى مطروحا:
لماذا لا تستطيع إيران أو حلفاؤها في المنطقة مثل حزب الله تشكيل جبهة تستوعب جميع مكونات المنطقة؟
هل ستبقى معتمدة على المكون الشيعي؟
إذن ستخسر.